الإمام علي.. الرمزية الوجدانية حضورا وغيابا

ثقافة 2021/05/03
...

 عادل الصويري
 
تعود اللحظة الرمضانية في فجر التاسع عشر وهي تجرجر الاستفهامات الوجوديّة الجريحة: بأيّ لون ومعنى سيتشح هذا الفجر؟، وأيّ بريد سينقله ذلك السيف المسموم بالجاهلية والكراهية، وهو يهوي على رأس رجل جسد أستذة الأخلاق العالمية على نحو متفرد؟.
يالها من لحظة يغيب فيها عن العالم ذلك الرجل الذي ملأ العالم بحضوره فكراً أراد للإنسان ان يستفيق ثقافياً من خدر النوم القيمي؛ لينطلق لعوالم التفكير والتغيير.
كان الحلم المائيُّ يرسو على مقلتيه، مبتعداً عن رمال التخلّف، متجهاً صوب خضرة النخيل في أعرق الأماكن حضارة؛ ليعيش الفكر حضوراً جديداً، لا شك أنه سيكون مليئاً بالتحديات الثقافية، والمنعطفات الاجتماعية.
إنّ الرمزية العاطفية والوجدانية لذكرى استشهاد الإمام علي (ع)، وإن أخذت طابعاً سردياً؛ فإنها على مستوى التعاطي الفكري والثقافي، تبعث على رصد السيرة العلوية الكبيرة التي تقدح وعياً عند كثيرين غابت عنهم المعادلة الوسطية الرائعة لشخصية الإمام، والتي استطاع بها هدم أي فاصلة بين الإنسان والإيمان، وهي الفاصلة التي اشتغل ويشتغل عليها كثيرون من أصحاب المشاريع المتهافتة والتي لم تدم سوى عقود فقط حتى وصلت إلى اللاجدوى، بينما نرى حقيقة الوسطية التي جسدها كاملة الإمام علي (عليه السلام) من خلال ذوبانه الكامل بالرسالة المحمديَّة العظيمة؛ هي التي تتألق ويعلو شأنها إنسانياً وحضارياً وأخلاقياً.
كثيرون اليوم، وصلوا لقناعة أن دراسة هذه الشخصية العظيمة؛ تستلزم عدم الفصل بينه وبين ما آمن به من معتقدات مضيئة، لم تكن مخالفتها إلا ضربٌ من العبث، والسباحة في الفراغ العقلي والروحي. فالمتشبثون بقضية صراع الطبقات والانحياز إلى الطبقة الفقيرة عادوا ليعترفوا أنهم ليسوا الأوائل في هذا المضمار بعد أن اتضح لهم ماكان خافياً أو هم من أغمضوا عن تلك الحقيقة التي تثبت أن علياً عليه السلام أول من كسر الحاجز بين فقراء البلدان الإسلامية وبين أثرياء الطبقة الغنية في قريش، حين اختار الكوفة في العراق مقراً جديداً نقل لها عاصمة الخلافة الإسلامية، والتي كانت في المدينة.
 لقد أراد الإمام علي (ع) بخطوة نقل مركز الخلافة إلى الكوفة أن يعيد إلى المسلمين صورة الإسلام الحقيقي المتفاعل مع معاناة الإنسان. جاءت هذه الخطوة لتؤكد أن حقيقة الدين وفحواه متجسدتان في (إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم) وليس للأمكنة أو الشخوص أي امتياز ما لم يكن عاملاً بالضوابط التي ترسخ القيمة العليا للإنسان الذي كرمه الله وفضله على سائر مخلوقاته. 
إنَّ الإجراءات التي اتخذها الإمام علي (ع)، وعلى الأصعدة كافة؛ سحرت العالم عبر أزمنة كثيرة فصار بحق رائداً للأخلاق العالمية، وإلا كيف نفسر هذه الدراسات والمقالات التي تكتب من منصفين غير مسلمين، في الوقت الذي يجري التعتيم على ريادته في العدالة الاجتماعية من قبل مسلمين لهم مالهم من الأجندات المنحرفة؟.
فهذا (جبران خليل جبران) يؤكد إنسانية عليٍّ الملتصقة بإيمانه فيقول: "مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه شوق إلى ربِّه، مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافية، غير أني أتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه".
لم تكن هذه الصورة المخيالية لجبران لتأتي لمجرد عاطفة إنسانية فقط، بل من المؤكد أن (جبران) وغيره من المتصالحين مع الأنسنة بعيداً عن رواسب الجهل والعنصرية والتطرف رأوا في شخصية أمير المؤمنين أنموذجاً أخلاقياً عالمياً متكاملاً فكتبوا عنه بكل أريحية، وبكل ما تفرضه الحقيقة من صور وتجليات.
وهذه الأمم المتحدة، تضع منهاج علي وآلياته كمعايير عالمية وإنسانية، واعتمدتها في برامجها الإنمائية، وكذلك في صيغ تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتصدي للفساد، وترسيخ مفاهيم التعايش السلمي، والقبول بالاختلاف شريطة سلميته، ومناهج التعليم، وغيرها من الأمور المتعلقة بالإنسان، وكل هذا أخذته من حكم ووصايا الإمام علي (ع) خلال خطبه وإرشاداته لأصحابه، وهو ما يجعله رائد الإنسانية وأستاذ عولمتها الأخلاقية في عالم يكاد يختنق لولا هواء علي المنعش.