صلاح حسن الموسوي
نشأت الدولة- الأمة في العراق عام 1921، كحصيلة لاستقلال العراق (الشكلي) بعد قيام ثورة العشرين على المستعمر البريطاني الذي حل محل المحتل العثماني المهزوم في الحرب العالمية الأولى. ومعنى ذلك ان الأهالي في ولايات (بغداد والبصرة والموصل) قد انتظموا في كيان سياسي جديد كليا على أرض الرافدين، أسوة بشعوب عالمية انتمت الى هذه المنظومة السياسية (الدولة- الأمة) والتي ظهرت للوجود في اوروبا قبل قرنين من الزمن وسادت عالميا في ما بعد، وذلك على أنقاض الأمبراطوريات المنهارة وأهمها الأمبراطورية النمساوية والعثمانية.
وتعني [الدولة- الأمة] اندماج الدولة بالأمة، وذلك في حدود اقليم او جغرافية محددة، اي خلق الاندماج بين جماعاتها المتباينة بعضها عن بعض ثقافيا واجتماعيا، وذلك في وحدة اقليمية محددة، ومن ثم انشاء هوية قومية جامعة، وهذا مايتفق مع ما ذهب اليه موريس دو فرجيه في وصف (الاندماج) كعملية توحد المجتمع وتميل الى جعله (مدينة) منسجمة قائمة على نظام يحس اعضاء المجتمع بأنه نظام حقا، إذ يعمد الاندماج الى الدفع باتجاه بناء مجتمع سياسي متناغم سياسيا وثقافيا من حيث التطابق بين (الدولة) بوصفها وحدة سياسية و(الأمة) بوصفها وحدة ثقافية، ومن جانب اخر، سوف يقيم الاندماج الدولة على اساس تقديس النظام وحمايته، بحيث يشعر المواطن حينها بقوة نظام الدولة- الأمة لكونه أصلا قائما على اساس تماسك الانتماء الثقافي للأمة. وقوة الانتماء السياسي
للدولة.
ولواقع نشوئها كحصيلة غير مباشرة للثورة العربية الكبرى في الحجاز عام 1916م بقيادة الشريف حسين بن علي. وتنصيب نجل قائد الثورة فيصل ونخبة حكومية عمادها الضباط الأشراف العراقيون، غلبت النزعة العروبية على النهج السياسي للدولة العراقية الوليدة، قبل ان تتطور الى نزعة ايديولوجية حزبية تؤمن بالقومية العربية بوحي من التنظير الرومانسي الألماني والفرنسي لفكرة القومية الحديثة القائمة على وحدة العرق او المشترك اللغوي، ولم يخلُ هذا المسار من حركات مضادة رفعت شعار العراق اولا، كالحزب الوطني الديمقراطي وجماعة الأهالي. وانقلاب (بكر صدقي- حكمت سليمان) عام 1926، والجدير بالملاحظة بشأن قائدي هذا الانقلاب، أن الأول كان كردي القومية والثاني ينحدر من أصول قفقاسية. فضلا عن تكرار الصِدام مع الزعماء الشيعة. بدءا من نفي العلماء الى ايران، والتظلم من تعمّد تهميش الشيعة في التمثيل الحكومي، وكمثال على مستوى الهواجس الشيعية من استئثار الطائفة الأخرى، يشير بيتر سلغليت في كتابه بريطانيا في العراق- صناعة ملك (أظهرت النخبة الشيعية معارضتها لمشروع التجنيد الإلزامي، وفي مجهود اخر لاقناع الشيعة المنخرطين في العمل السياسي بأن مصالح البلد تقتضي تطبيق التجنيد الإجباري. ولكن بعد خطاب ناري ألقاه المحامي البارز وعضو الحزب الوطني حديث التأسيس علي محمد أمام جمع من الحاضرين في نادي النهضة الشيعي، ران صمت غير مريح بعد سؤال: كيف سيدافع الشيعة عن أنفسهم من السنة عندما يرحل البريطانيون!؟)، من جانب اخر مثل الموضوع الكردي عامل ازمة دائمة للاستقرار السياسي للدولة، اذ اسهمت الطبيعة الجغرافية الوعرة هناك بسهولة التمرد العسكري على الدولة العراقية، وتمكين القوى والدول الأجنبية بالتدخل لتصفية حساباتها مع الدولة او الحكومات
العراقية.
وقد اشاعت الأحزاب القومية الكردية العراقية خصوصا بعد عام 2003 فكرة العراق المصطنع من قبل البريطانيين، وهم بطرحهم في البداية لفكرة الحكم الذاتي داخل الدولة العراقية، ومن ثم الفيدرالية في اطار عراق موحد، لم يخفوا هدفهم النهائي بتشكيل (الدولة- الأمة) الكردية التي ممكن ان تكون محصورة بأكراد العراق فقط او أكراد المنطقة، وترويجهم لفكرة (الكردستانية) وليست الكردية، كان عبارة عن المسعى المتاح لتأسيس دولتهم على اساس الأقليم الجغرافي الواحد مع وجود التعددات الأثنية والعرقية هناك، وذلك في تطبيق للنظرية القومية الفرنسية ومؤسسها ارنست رينان التي سماها بـ (ارادة العيش المشترك)، وبالمقابل العربي، حمل فكر حزب البعث كأنموذج للفكر القومي العربي الشوفيني الذي استطاع الوصول الى سدة الحكم، نوعا من النظرة الدونية للدولة العراقية الموجودة (القطرية)، بوصفها مناقضة للحلم الرومانسي بدولة تجمع العرب من المحيط الى الخليج، ولمعالجة اشكالية الفرق بين الأمة بالمفهوم القومي العربي الشامل. والشعب في اطار الدولة ذات التعريف المعلوم كفضاء قانوني وسياسي واخلاقي عام ومشترك بين مواطنيها، ذهبت احدى المنشورات المتأخرة للحزب الى التصريح بأن الأمة هي روح الشعب والدولة هي جسده، وبكلمة اوضح نقول إن دولة الوحدة لايمكن ان تقوم الا اذا ايدتها وسعت اليها الأكثرية العظمى من القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلدين عربيين او اكثر، وهذا يتطلب وجود مصالح مشتركة لهذه القوى في بناء دولة. وهنا يشير الكاتب شيركو كرمانج الى اثر التطرف القومي العربي والكردي في محنة الوطنية العراقية، (هاتان القوميتان المتناميتان أسهمتا في اضعاف الوطنية العراقية وضعف الالتصاق بالهوية العراقية، وهذا يأتي بسبب كون مجتمعاتها المتخيلة لاتتوافق مع المجتمعات التي تعيش ضمن الحدود الحالية للعراق، ومن المؤكد ان الدولتين اللتين كان يأمل العرب والكرد قد تداخلتا، وانهما قسمتا الأراضي العراقية ومجتمع العراق المتخيّل منذ تشكيل العراق، وهناك تناقض مثير يتمثل في ان كلا من القوميين الكرد والعرب يرومون صرف العراق كليا او جزئيا، في كيان اخر، الوطن/ الأمة العربية في حالة القومية العربية، وكردستان الكبرى او كردستان العراق في حالة
الكرد).
بديهيا لا توجد دولة او مجتمع حديث خالٍ من التنوعات الإثنية والقومية والدينية، فاوروبا الغربية تحتوي دولها على العشرات من (الإثنيات) والطوائف الأصيلة المعتزة بخصوصياتها، ولكن تطور القانون وسيادته، وانبثاق المؤسسات ببنيتها الجامعة، ومرونة وتطور فلسفة الاعتراف بالحقوق للأفراد والجماعات، حق التعبير والملكية والتمثيل، أرخى بظله السلمي على حراك الدولة والمجتمع هناك، وفي العراق، مازال تحدي تحقيق متطلبات وشروط النظام الليبرالي الديمقراطي الاتحادي، قائما لتحقيق الثقة المتبادلة مع الجمهور، وقطع الطريق على دعوات الانفصال من جهة، وادعاءات الوطنية (الرثة) وغير الواقعية من جهة أخرى. عبر التنفيذ الفعلي لنظام الفصل بين السلطات، وحصر السلاح بيد الدولة ومؤسساتها القانونية، وتنشيط الاستثمار والقطاع الخاص لتوفير فرص العمل ورفع عبء التوظيف الفوضوي عن الأجهزة الحكومية، فضلا عن انتهاج سياسة وطنية خارجية مستقلة
ومتوازنة.