صحراء الحب.. الرواية التي أوصلت كاتبها لجائزة نوبل

ثقافة 2021/05/05
...

  هدية حسين
رجلان وامرأة هم أبطال هذه الرواية، وبقية الشخصيات مكمّلة لأحداثها، وهي رواية مشاعر أكثر منها رواية أحداث، يبدع الروائي الفرنسي فرانسوا مورياك في بحر النفوس ليستخرج الغاطس فيها، ولهذا استحقت أن تحصد جائزة نوبل في العام 1952، تبدأ الرواية من نهايتها، ريمون كوريج البالغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً وهو يجلس في حانة بانتظار صديقه. 
 
وبعد فترة وجيزة تدخل امرأة أربعينية (ماريا كروس) صحبة رجل سنعرف في ما بعد أنه زوجها لاروسيل،  تثير فيه مكامن ما كان يتوقعها، وتعيده الى زمن بعيد عندما كان بعمر الثامنة عشرة، وريمون هذا هو ابن طبيب مشهور يدعى بول كوريج، وتعيش الأسرة كثيرة العدد في بيت واحد، الجدة والابن والأخ والأخت وزوجها الضابط باسك والحفيد، وإذا كانت ثمة رابطة أسرية تجمعهم بحكم القرابة فإن عوالمهم الداخلية متنافرة، وكثيراً ما يكون الشغل الشاغل على مائدة الطعام هي ماريا كروس فتبدأ المشاحنات ويحتدم الجدل الذي لا يُرضي الطبيب كوريج وفي معظم الأوقات يغادر المائدة، فهو وحده من بين الجميع من يعرف هذه المرأة التي ينظر إليها الناس نظرة دونية ويعتبرونها امرأة سيئة السمعة.
الرواية التي تقوم على التداعي من الحاضر الى الماضي ستمر عبر دهاليز نفسية يتقاسمها الطبيب كوريج مع ابنه ريمون، فالاثنان ارتبطا بماريا كروس، الأول أحبها رداً على حياة الجليد التي يعيشها مع زوجته ولم يَرَ فيها ما يراه الناس، أما الابن المراهق وقتها فقد ارتبط بها من دون أن يراها، وكوّن فكرة سيئة عنها بناءً على ما سمعه من الناس فحلم بلقياها، وعندما تم اللقاء من دون تخطيط أول الأمر أحس بأنها تحرك رجولته التي بدأت بالظهور، لكنه لم يجد منها استجابة حقيقية  وشعر بأنها تهينه عندما طلبت منه أن يغادر لأنها تريد أن تكون بمفردها، وتمنى أن يثأر من هذه المرأة حتى بعد مرور سبعة عشر عاماً على لقائهما الأخير في بيتها، وها هو يلتقيها بعد هذه المدة في الحانة تجلس قريباً منه.
كفة بكفة، ريمون وماريا كروس، والطبيب كوريج، يتقاسمون الرواية ويسيّرون فصولها بمتعة كبيرة على الرغم من شحنة الانكسار في نفوس أبطالها، ما إن يأخذنا ريمون من حانته (في الحاضر) الى مراهقته (في الماضي) ويحكي عن تفاصيل أسرته ومشاكلها وما ينغص الحياة فيها، حتى نجد أنفسنا مع الطبيب المهموم بعلاقته بماريا كروس خصوصاً بعد أن مات ابنها ولم يقدّر الناس ماذا يعني موت ابن لامرأة وحيدة يلوك سمعتها الجميع لمجرد أنها قبلت العمل كمشرفة خدمات للمدعو روسيل، تخدم زبائنه وتهيئ لهم الأجواء وتشرف على تفاصيل حفلاتهم، وهي من جانبها رضيت بهذا العمل لكي تصرف على علاج ابنها ليس إلا، وبمرور الوقت شعر الطبيب كوريج وهو يزورها من أجل الابن المريض بأنه يحبها في أعماقه، فكيف تنظر هي إلى هذه العاطفة ولم تكن في ذلك الوقت قد تزوجت من لاروسيل؟ نعم كانت هي أيضاً منشدة الى الطبيب كوريج وهذا الانشداد لا يعدو سوى إعجاب لدرجة القداسة، حتى أنها في إحدى رسائلها له كتبت عبارة قالها موريس بترلنك (سيأتي زمن ليس ببعيد تحس فيه النفوس بعضها ببعض من دون وساطة الأجساد، أكتب لي يا موجّه ضميري فرسائلك تكفيني) ص72، وبمرور الوقت أحس الطبيب  بأن ماريا لم تعد راغبة في لقائه، وذلك بعد ما أخلفت موعدها معه، في حين كان هو مستعداً لأن يضحي بزوجته وأسرته من أجلها، وهنا يلعب المؤلف على ذلك الوتر الحساس والمضطرب من المشاعر، مشاعر الطبيب الخمسيني الذي أحب امرأة واهتم بها لكن هذه المرأة لم تضعه إلّا في خانة الإعجاب، أما بالنسبة لعلاقة ماريا بريمون فقد تراوحت بين حب صبي لم ينضج بعد، وانشداد لم يخطر ببالها يكمن في أنها تبحث فيه عن ابنها المفقود، حتى أن اللقاء الأول الذي عوّل الاثنان عليه انتهى الى حال لا يسر، هو تمناها، وهي كذلك غير أنها لا تدري لماذا راحت تسرد عليه عذاباتها في ما يخص ابنها فانتهى اللقاء الى ما يشبه المأتم.
لم تكن علاقة الحب وحدها هي المهيمنة على الرواية، لقد اشتغل فرانسوا مورياك على علاقة الأب بابنه قبل أن ندخل الى الاحتدام بين الطرفين حول ماريا، إذ لم تكن بينهما ما بين الأب وابنه من حميمية، برغم أن كوريج طيب القلب ولا ينقصه حس الأبوة، لكن تلك الطيبة لا تظهر بسهولة، ولا يجيد التعامل مع ابنه الفائرة مراهقته، وكان ريمون يعتقد بأن أباه عدو له.
كل تلك التداعيات حضرت عندما شاهد ريمون ماريا بعد سبعة عشر عاماً في الحانة، وحضرت معها تفاصيل معرفته بها وكيف جرت العلاقة المرتبكة بين الاثنين، وكلما عاد بنا فرانسوا مورياك الى الحاضر انجرفت المشاعر وركضت صوب الماضي، لأنك لا تعرف الشخصيات إلا بماضيها، فهو الخزين الذي صنع هذه الشخصية أو تلك وطبع بصماته على سنين العمر.
لقد حضرت ماريا الى الحانة وأدارت عجلة الزمن الى الوراء وأثارت عاصفة من الذكريات، فماذا حدث بعد هذا اللقاء غير الوارد في روزنامة كل منهما؟، هذا ما سيعرفه القارئ في الصفحات الأخيرة من الرواية التي ترجمها فتحي العشري وصدرت عن الدار المصرية اللبنانية بطبعتين، الأولى عام 1994 والثانية 2002.