بعضهم يعدّه انطلاقة وآخرون أنكروه ما الذي يمثّله الإصدار الأول للكتّاب؟

ثقافة 2021/05/06
...

  البصرة: صفاء ذياب
يمثّل الإصدار الأوّل لأي كاتب تجربة مختلفة، تنقله من كونه هاويَ أدب أو ثقافة، إلى كاتب بدأ بتأسيس مشروعه المعرفي. هذا الكتاب الأوّل الذي غالباً ما يغيّر من وجهة نظر مؤلّفه تجاه ما يكتب، وما عليه أن يكتب في ما بعد، يبقى في الذاكرة أكثر من أي كتاب آخر، لأنه العتبة التي دخل فيها هذا المؤلّف إلى عالمٍ أوسع، حتى وإن كانت تلك البدايات متعثرة، أو تشوبها أخطاء معرفية أو أسلوبية أو لغوية، فهناك من مزّق كتابه الأول في ما بعد، وهناك من أنكره ولم يضفه إلى سيرته الذاتية... غير أن هذه الأخطاء تشكّل حلقة من حلقات التعلّم، لهذا حينما ندرس تجربة كاتب ما، نبحث في التحوّلات التي طرأت على كتاباته، منذ إصداره الأوّل، وحتى آخر كتاب أصدره... فكيف ينظر كتّابنا إلى ما يمثّله هذا الإصدار؟.
 
الروائي والناقد حسين السگاف، يرى أن كتابه الأول لم يكن وليد فكرة فلسفية أو حتى شعرية، بل كان سبيكة آلام وعواطف وصرخات تناشد الانتباه إلى فجيعة مقبلة، إلى المحاولات المستميتة لتدمير الذات البشرية وهي تشاهد سيل الدم الذي تصطبغ به الأرصفة والشوارع والساحات... إلى تفشّي ظاهرة الأيتام والأرامل وافتراش الأرصفة... "كتابي الأول كان، رواية (كوبنهاغن.. مثلث الموت) عن (دار ميريت 2007)، الرواية التي اتخذت من مدينة صغيرة مسالمة أنموذجاً حيّاً ورمزاً لمدن العراق، فما من مدينة عراقية إلا وشهدت ما جاءت به الرواية من مشاهد...".
ويضيف السگاف: صرخة الرواية لم تخفت بعد، ولن تخفت، فالدم ما زال يراق وإن اختلفت كثافته باختلاف الزمن... فالسؤال الذي تطرحه الرواية بمرارة، ما زال قائماً: "كيف تحوّلت مدينة مسالمة، نسبة الشباب فيها هي الغالبة، يميزها الفن والأدب وضحكات الأطفال وتغريد الطيور وزقزقة العصافير، إلى مثلث موت يخشاه البشر ويرعب الأرواح المسالمة؟"، هذا السؤال الذي أجابت عنه الرواية بعرض سلسلة تاريخية من محاولات تحويل الأيدي المنتجة "فلاحية كانت أم عمالية" إلى أدوات قتل وترهيب حين ساقتهم سلطة الديكتاتور إلى أجهزتها القمعية ليكونوا يدها وسوطها وخنجرها المسموم. "أعترف بأنَّ الرواية ظهرت مشحونة بالعاطفة، لكن وثيقتها التاريخية قد منحتها أهمية مضافة من شأنها أن تطيل عمرها وتأثيرها". 
غير أن هذه الرواية "ستبقى اللَّبِنَة الأساس لما أُنتج في ما بعد، والقنديل الأول المضاء في طريق طويل مشيّد بالأوراق والكتب والأفكار".
 
استشراف
ومن وجهة نظر الناقد السينمائي أحمد ثامر جهاد، فليس من الغريب أن يتفق عدد كبير من الكتاب - مع اختلاف اهتماماتهم- على أن الكتاب الأوّل يشبه إلى حدٍّ كبير المولود الأوّل لأي إنسان، وهو تعبير لطالما تكرّر في أحاديث العديد من الأدباء والكتاب. 
وليس ثمة مبالغة في هذا القول بالنظر لما يخلفه الكتاب الأوّل من بهجة ناجزة وأمل متجدد ومستقبل واعد لدى أي كاتب، مهما بلغ عدم رضانا عما سطرّناه فيه، إلّا أنه يبقى محتفظاً بقيمته كحافز فاعل له الفضل الى ما وصلنا إليه من مكانة وخبرة ودراية في شؤون الكتابة.
بالنسبة لجهاد، الكتاب الأوّل هو رديف الخطيئة الأولى التي تدفع الكاتب لمنزلق اللذة الذي لا سبيل للإفلات من غوايته. إنه مثل تلمس لذائذ القبلة الأولى التي ستعدك بتحقيق مبتغاك مع من 
تشتهي. 
لكنه وبتصميم عقلاني سيكون مع ما يخلقه من أصداء منبر كلمتك الأوّلى أمام العالم مشفوعة بوعد الاعتراف بكيانك مستقبلا. 
"في منتصف عقدي الثاني أصدرت في تونس عام 1998 كتاباً في النقد السينمائي تناول العلاقة النظرية بين الرواية والفيلم، كنت غير مصدق وأنا أرى كلماتي بين دفتي كتاب صغير بغلاف أنيق، بقدر فرح أصدقائي وأسرتي بخطوتي تلك التي أدين لها بكل ما أنجزته من كتابات لاحقاً... لكن برغم المعنى الكبير للتجربة الأولى مجسدة في إصدارنا ذاك، سنرى أن من بيننا من يخفق في إتمام مسيرته أو من تقوده ضغوط الحياة إلى مسارات أخرى تكون الكتابة فيها حلماً مؤجّلا أو بعيد المنال، وهناك بالطبع من يصل بفعل تلك الخطوة الشابة إلى ما حلم بالوصول إليه... كتابنا الأوّل صورة صادقة تستشرف ما سنكون عليه في زمن لاحق".
 
ليس الآن
في حين يُبين الكاتب عبد الكريم يحيى الزيباري الذي نشر أربعة عشرَ كتاباً، وفي سيرته الذاتية اكتفى بذكر ثلاثة عشرَ كتاباً فقط. آخرها بعنوان (الفكر الاعتزالي) عن دار شهريار، لكن للكتاب الأوّل مَذاقٌ خاص. فهو المحاولة الأولى، سنة 2004 طبعتُ كتاباً في مكتب استنساخ، طبعةً جداً رديئة، من الصعب الاستمرار في قراءته، بعنوان (سلطة المثقف) وكنتُ فخوراً به، لسنتين، ووزعته على المكتبات العامة في محافظة نينوى ودهوك، ثم سحبته بالتدريج، حتى لم تبقَ منه نسخةً واحدة. 
المحاولة الأولى غالباً ما تكون فاشلة. والكثير من الكتاب والشعراء أنكروا إصداراتهم الأولى، فلم يعيدوا طبعها، وكأنَّها لم تكن. 
أرسل خوزيه ساراماغو روايته الأولى (المنور) إلى دار نشر، سنة 1953، وأجابته الدار سنة 1989 (إنهُ لَشرفٌ لدارنا أن تنشر هذه المخطوطة التي ظهرت لدينا ونحن ننقل أمتعتنا إلى مكانٍ آخر) وكان جوابه (شكراً ليس الآن) ذلك التصرّف القديم دفعَ ساراماغو إلى صمتٍ آلمه، وطال ثلاثة عقود. كذلك صمت كتابي الأول آلمني لكن لثلاث سنوات 
فقط!.
 
في ما بعد
يستطيع الروائي سعد سعيد أن يتصوّر مدى فرحة كاتب شاب حين يستلم النسخة الأولى من كتابه الأول، ويعرف كيف يشعر في تلك اللحظات الثمينة التي لا يعتقد أبداً بأنه يمكن أن ينساها يوماً، ولكن "هذا لا يقارن بما شعرت به أنا شخصياً حين حملت النسخة الأولى من روايتي الأولى، لأنني حملت في لحظتها حلم نصف قرن من حياتي، متحققاً بين يدي، وهو ما جعلني تائهاً ما بين لحظة حلمية سحرية، وواقع أنا على يقين من كوني أعيشه".
مضيفاً: كان شعوراً ملأني سعادة طوال ذلك اليوم، ولكنني عدت في نهايته إلى أفكاري الواقعية، لأنني وبذلك العمر، لم أكن لأكتفي بطباعة رواية واحدة فحسب، بل كان هدفي الأكبر هو ألا أكون مجرّد رقم مضاف في عالم الرواية الذي دخلته للتو، بل كنت أخطط لإضافة نوعية أحققها، وهذا يعني طبعا أنَّ أمامي المزيد من الجهود التي يجب أن أبذلها لتحقيق ذلك ويجب أن أكون على قدر المهمّة التي ألزمت نفسي بها... نعم، هي لحظات جميلة جداً، ولكن لقول الحق أذكر بأنّها لا يمكن أن تتجاوز سعادة اللحظة التي أنهي فيها كتابة نص لي".
 
التمسك بالحلم
أما الكاتب والمترجم هادي رزاق الخزرجي فيُبين أنه لا شك في أنها ذكرى تبقى حيّة، يستعيدها ما دامت تمثل له تحقيقاً لهدف استحوذ على طفولته، تلك الطفولة التي بدأت بين أكوام الكتب المتنوعة، والمجلات، ومحاولات الكتابة البسيطة المعززة بالرسوم، لإحداث مغامرة خيالية محاكاةً لهذه القصة أو تلك. و"كانت الخطوات بأن درست اللغة العربية، ثم بتحصيل كل ما يمكن من نماذج عالم السرد وأسراره؛ فكان أن درست (الرواية العربية الممنوعة)، ورحلت بين عوالم الدين والسياسة والاجتماع والأخلاق من خلال فن الرواية. 
ثم جازفت بطباعة تلك الدراسة بعنوانها، طبعة محلية في النجف، عام 2012، وبعدد نسخ قليل، فكانت مشاعري مختلطة بين الفرح والرهبة، وأخذت أقلبه بين يدي كأنه طفلي الأول!، وكأنه إنجاز كان لا بد أن يستلزم وقته الطبيعي كي يظهر. وحتى هذا الوقت، وبعد أن وُفقت لتأليف مجموعة أخرى من الدراسات، وترجمة بعض السرديات الساحرة، تبقى تلك النسخة بغلافها الأسود، مصدر مغامرة أولى، أستلهم منها دافعاً مهماً أساسياً لا يهدأ، نحو المزيد من القراءة والتحصيل والتخصص، وإلهام الآخرين للسير على الطريق نفسه، والتمسك بالحلم حتى تحقيقه".