رجب الشيخ.. قلق الرؤيا وأسئلة الكتابة

ثقافة 2021/05/09
...

  غانم عمران المعموري
ذاكرة.. في عيون.. غائرة: (هناك.. خلف محجر العيون هوة عميقة/ وجدار مشروخ من قفاه/ وباب يقف عليه حارس ربما لا يفقه سر الأشياء/ برأس منزوع فوق كتف يتدلى، ويدين مبتورتين/ على عنق الخيبة، بسذاجة سراب نائي/ تحصد رغبات الصمت../ تخاف النور خلف أوتار عارية القسمات/ تفوح في الجانب الأيمن منها غمغمات.. تهمس في أذن الريح/ تتلعثم فيها الأزهار../ وينام الضوء ما بين سلالم وكوابيس/ ويهمس حالماً تحت ظل الشرفات).
 
عنونة القصيدة (ذاكرة.. في عيون.. غائرة) تكشف عن المرآة العاكسة، وعن سيكولوجية الذّات الشاعرة وما يُحيط بها من ارهاصات نفسية، وما يُريد أن يطرحه الشاعر، إذ «تتجلى هنا غاية وقصد ما يتوق اليه، أو من يقوم بإرسال رسالته إلى المتلقي عبر عملية اتصال لا تحتاج إلى تشفير، بل إنها رسالة واضحة المباني والمعاني، قَصَدَ صاحبها إيصالها إلى جمهور خاص أو عام، عبر كلمات تحمل وتحتشد فيها إيحاءات وتشبيهات، وصور بلاغية متنوعة بالوصف والتشبيه، ونزف داخلي لخلجات نفسية تنفر الى سطح الورقة».
تَشع القصيدة بحزمة صور شعرية مُتشظاةٍ، من البؤرة التي تتجوهر عندها الفكرة الأساسية، إذ تتكشف الرؤيا عن هواجس، هي ذاتها المشغولة بانزياحات تمنح القصيدة شعرية متدفقة، وعبر صورة حسيّة  تتحرّك عبر ايقاعها الداخلي، وعبر ما تحفزه مُخيلة المتلقي للتأمل والتلذذ بإحالاتها النفسية، تلك التي تتصاعد مع ارهاصات الذات، وهي تشتبك مع اللغة، عبر ألفاظها ومعانيها، وعبر انثيالاتها هي تستعيد شريط الذكريات والآلام التي كانت في سُبات، فبدت القصيدة وكأنها مزيج من الرؤى والانزياحات التي تكشف عن قلق الشاعر، وعن أسئلته الوجودية.
تُمثل القصيدة خروجاً على المألوف، وانحيازا الى الذات، عبر الكشف عن تمرد صاخب على الواقع المُزيّف، إذ تحضر اللغة هنا بوصفها خطابا، ولذة، وانزياحا للتجاوز، والذي يؤكد ما قاله ريفاتير من أن الانزياح «يكون خرقاً للقواعد حينًا ولجوءًا إلى ما ندر حينًا آخر، فأما في حالته الأولى فهو من مشمولات علم البلاغة فيقتضي إذاً تقييماً بالاعتماد على أحكام معيارية، وأما في صورته الثانية فالبحث فيه من مقتضيات اللسانيات عامة والأسلوبية خاصة».
لذا فقد جاءت الانزياحات في القصيدة «وجدار مشروخ من قفاه، على عنق الخيبة، بسذاجة سراب نائي، تحصد رغبات الصمت، أوتار عارية القسمات، تهمس في أذن الريح، 
تتلعثم فيها الأزهار..، وينام الضوء».
يمتلك الشاعر قدرة على تشكيل الالفاظ فنياً وجمالياً بما يتجاوز إطار المُعتاد والمألوف، وبما يجعل القارئ امام مباغتة المتلقي، حيث الإثارة، والصدمة، وحيث الإيقاع الموسيقي الداخلي، لذلك فإنه «يعد الانزياح من أهم المظاهر الأسلوبية التي تميز النصوص الشعرية، وهي تلك النصوص التي يتصرف فيها المبدع عن طريق لغته، وإخراجها من نسقها الأول، ليعيد تركيبها من جديد بما ينسجم ومتطلبات نصه؛ ولا بد للمبدع من أن يعي فكرة حصول الانزياح في النص الذي هو بصدد إنتاجه كي يقوم بالتحكم في درجة وقوع انزياحه في النص، من حيث القوة والتأثير، وأن يشعر المتلقي أن هناك 
ما يجذبه إلى هذا النص أو ذاك»3.
وذلك ما بدا واضحا في إضفاء الشاعر على الجدار الصفات البشرية من الاحساس والشكل والاعضاء المكونة له، وعبر أسلوب فني جميل وجعل للخيبة عنقا بتصرف لغوي دلالي ووصف السراب النائي بالسذاجة التي دائماً تطلق على الشخص الذي يتمتع ببساطة التفكير ويفتقر إلى الذكاء والحكمة والحُنْكة وينخدع بسهولة، واستعمل فعل «يحصد» في موضع غير مألوف لكنه حقق جمالية ابداعية مُثيرة للمتلقي، واطلق صفة التعرّي على الأوتار بأسلوب انزياحي هادف، وتهمس في أذن الريح، إذ جعل للريح أذنا للدلالة على انتشار الخبر بسرعة، وكذلك أضفى صفة التلعثم على الأزهار والنوم للضوء.
تمكن الشاعر من خلال رصد دلالة العبارات والمقاطع الشعرية ذات الصور المتعددة والمتحدة المعنى والهدف بحثاً عن غير المألوف والمجهول ليفّعلها ضمن سياقات مليئة بالانزياحات مما يُحقق جمالية شعرية تستقبلها أُذن المتلقي بإحساس وجداني ما دامت القصيدة نابعة من ضمير حيّ هدفه إيصال رسالة سامية.