القوة والمجد

ثقافة 2021/05/09
...

 ياسين طه حافظ
ما أردت  التذكير برواية معروفة مرت على صدورها عقود. ولكني  دائماً ما يشغلني في الأدب أمرٌ فأقف 
عنده. فثمة نوع من الأسى يحسه الذين خاضوا الحياة وخرجوا ينظرون لما خلفوه وراءهم. هذا الامر، غالباً  مايكون  ذا صلة بالاسى العام وبما اثارة الادب، وهو هذا الذي يستوقف القارئ او المتأمل ليعيد النظر 
في الاشياء او ليقف صامتاً بازائها. وأرى أن هذا المثير المؤسف والمحير، هو الذي غالبا يمنح العمل قيمته الخاصة  ومحبة  او  ورضى قارئه.
 
إذا نحن نتحدث عن الشأن الذي تشير له وتنبهنا إليه السطور. انه الرمز، المعنى الابعد، أو ما  ظلت ارواحنا، وتظل، محتاجة إليه، فترتاح لمن يدركه أو يؤكده فنراه جيدا ونرضى. ويبدو ان نفوسنا يزداد فيها زحام تلك المعاني بزيادة ثقافتها مثلما بزيادة لا وضوح الامور حوالينا. قد تكون تلك التي يحملها النص افكاراً وقد تكون امنيات وقد تكون مطامح انسانية مقموعة، وقد تكون اخيراً إجابات عما يشغل ويقلق.
 ليكن الكلام مباشرا اكثر،  صادماً في حال، فأقول نريد حياة خلواً من الرداءة أو الخطأ او الجريمة او من عيوب البشر الأخرى. ومع تقديري وفهمي لجذر المشكلة الأقوى، وهو حاجة الانسان ليعيش. اي لينال ويسلم. وهذان  يوحيان احياناً بـ أن يغتصب أو ينحاز أو، لمزيد من تعابير الغاب، ليفترس ويقوى فيسيطر..
المشكلة وتعقيدها الفكري يتأتيان من أننا نريد أن نبرأ من صفات الغاب ونبقى مع المثال والتعفف او الفضيلة. هذا الطموح البشري او هذا الأمل، ظلت الحسرة عليه وظلت الممارسة  ضده!.
عموماً الانسان يبارك أي جهد، أي إبداع ، أي عمل نضالي يعين على تحقيق ما يتمنى. وضمن هذا نشيد بإنجازات الكتاب الجيدين، قدماء عاشوا في اليونان أو بابل وناساً في  العصور التي تلت. وفي عصرنا  شواهد عظيمة من هذه الأعمال المجيدة، والتي أرّق أصحابها  الهمُّ  الانساني... مع ذلك وحتى اليوم، ظل المتمنّى حسرة ولم يتحقق.
من هذه الأعمال، عمل لم يحظَ بانتباهٍ كافٍ، ذلكم هو رواية جراهام جرين: القوة والمجد The Power and Glory . عرفت هذا  الكاتب من  رواياته صخرة برايتون ولب المسألة والطفولة الضائعة. لكني اليوم معني بـ «القوة والمجد» لأنها شاهد  محْكم كتابةً وفكراً وتقدم أنموذجاً للاسلوب الانجليزي شديد الاتقان والجمل المحسوبة مواضعها. أهتم هذا العمل بالاشكال الانساني الذي تحدثت عنه.
لا أدري إن كانت هذه الرواية ترجمت الى العربية أم لم تترجم، عموماً سأتحدث عما يعنيني منها، عن  المتمنى الانساني الذي ضاعت كل الجهود في الوصول اليه، ولم يفتني أن رواياته السابقة تملك شيئاً من هذا ولكن “القوة والمجد” جسّدت الجهد البشري والألم من النتائج، تماماً كما جسدته الشيخ والبحر لهمنغوي. عمل همنغوي مثال آخر لما تحدثنا عنه وإن اختلف الاسلوب والمستوى.
“القوة والمجد» قصة كاهن يسافر الى أرض تفتقد الايمان. هذا بدء التضاد. كاهن وبيئة ضد معتقداته وايمانه، بل  ضد كل ايمان من هذا النوع، فليس أمامه إلا التحدي والاستماتة لتحقيق شأن اراده. وكما في روايات الكاتب السابقة، البيئة دائماً موضع الاهتمام. هنا البيئة فاسدة وليس إلا الفجور، الجريمة، والعنف. وجرائم وعنف لا ينتهيان في اية بقعة منها، و الرعب حيثما تكون. فالراهب او الكاهن او الرسول في أرض كل واحد من بشرها يحمل شارة موت وهو عرضة للفتك به او الهلاك في اي لحظة. بيئة جحيمية مرعبة وفاسدة تماماً فهل يستطيع هذا  الطارئ المقبل «بإيمانه» و «مثله» أن يفعل شيئاً؟، النتيجة، وهي حتمية، انه انتهى وضاعت جهوده مثلها يضيع أي جهد حكيم أو فضيلة. انتهى وغاب وطل الرعب وظلت الجريمة والعنف، وثمة همس: بأن كاهناً آخر، أو رسولاً، سيأتي لهذه الارض ويواصل رسالته او نضاله لاصلاح هذه البيئة فتكون  نظيفة ولا جريمة ولا عنف ولا فساد. وطبعاً لا احد يتوقع غير الذي دائماً يكون. مهما كان رأينا، او موقفنا من المسألة،  نحن امام  سوء العالم والسعي المستميت لاصلاحه وتلك التضحيات المؤسفة عبر  التاريخ من اجل صلاحه وسلامه. بعد هذا يأتي التساؤل الذي قد يكون فاجعاً: اين هي القوة واين المجد؟، هل هي  قوة ومجد ذلك الذي خاب وانتهى، ام هي  قوة ومجد البيئة الفاسده، التي بعد كل اولئك الكهان، الرهبان، الرسل، اصحاب الرؤى، ظلت فاسدة وظلت الجريمة في مكانها وظل الفساد؟.
انا أسأل فقط وأترك الجواب لمن يحترم الحقيقة ويجيب.