تأملات في المكان

ثقافة 2021/05/10
...

  مهدي القريشي
يشكل المكان احد العناصر الرئيسة في اي عمل ادبي وتظهر تجلياته كلبنةٍ  نصيةٍ  واعية وفاعلة وله حضوره وخصوصيته ، ففي السرد يكون المكان واضح المعالم و يظهر في الشعر كمتخيل افتراضي في معظم القصائد، وللمكان ارتباطات وثيقة بروح وماهية العمل الادبي ومن غير الممكن ترحيل المكان المحدد من عمل ادبي الى عمل أدبي اخر. 
 
فالتزاوج والترابط والانسجام بين المكان والحدث وابطال الرواية او القصة ترابطاً وثيقاً، فلو تأملنا المكان الذي يتمدد به ابطال روايات حامد فاضل ( الصحراء ) والتي من خلالها يتم تشكيل شخصيات رواياته ، ورحلنا  هذا المكان الى عمل ادبي اخر لحدث خلل كبير في تركيبة المشهد فكثير من النتاج الادبي يتخذ  المكان محور الحدث وقد يتفوق على ابطاله، وفِي احيان يتصدر المكان، المشهد كما في روايات نزار عبد الستار او زقاق المدق لنجيب محفوظ او بعض قصص حسين رشيد، ان كان هذا المكان افتراضياً ام حقيقياً، فكثير من الاماكن الافتراضية تحمل معها قيمتها وبالتالي تفرض مقبوليتها الثقافية لدى جمهور 
التلقي. 
فالمكان يمارس سطوته وفعالياته في الادب العالمي والعربي والعراقي على حد سواء وتتنوع تجلياته واشكالاته من مدوَّن الى اخر  بضوابط معينة ولا يحتاج المتلقي الى جهد لفك رموزه او النحت في الوصول الى ماهياته وارهاصاته المخبوءة بسبب تفاعلاته بشكل دراماتيكي مع ما يجاوره من فنون وآداب، بكلام اخر انه لا يقع في المنطقة الرمادية في بنية النص، فالروائي غائب طعمه فرمان حينما يرسم ملامح ابطال رواياته يمنحهم الصفة المحلية ويحركهم على أرضية معروفة للمتلقي العراقي او قد يكون المتلقي نفسه سار في نفس الطريق الذي سار عليه ابطاله، فرواية النخلة والجيران وخمسة اصوات وغيرهما لا تغادر المكان العراقي بكل تفرعاته ابتداء من الدربونة والشارع والمحلة والنخلة وليس انتهاءاً بالأقارب الذين يسكنون بيوتات تحمل رائحة الطين 
العراقي. 
وتتنوع تجليات المكان في السرد العراقي فمرة يأخذ من الاهوار مكاناً آمنا لانطلاق ابطاله لممارسة فعالياتهم الحياتية ومرة أخرى يستوطن الجبل أو غابات نينوى أو شواطئ دجلة والفرات او الصحراء، فعبد الله صخي مثلا تفاعلت شخوصه (خلف السدة) في مدينة الثورة او في (تل اللحم) جنوب العراق واختار آخر الشماعية (مستشفى المجانين) مسرحا لممارسة الجنون والصحو المنتظر، أما شوقي كريم حسن فكانت جغرافية مدينة الثورة (الصدر حالياً) مكاناً لنشاط ابطاله (الشروكية) الفقراء النازحين من 
الجنوب.  
أما نزار عبدالستار فقد وظف المكان الموصلي مسرحاً لتفاعل ابطال رواياته، واتخذ بعض الروائيين مكاناً هلاميا رجراجاً للتحايل على سلطة الرقيب فرواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف يقودنا استهلالها الى منطقة غير محددة تمتد على طول أبار البترول العربي شرق المتوسط، رغم تنوع هذه البلدان بأمور كثيرة الا انها تتشابه بإنتاج البترول واضطهاد شعوبها.
في السرد، المكان ليس محايداً او بريئا فعلاقاته تمتد الى جميع اثاث النص، له روح وخصوصية وامتيازات فمكان السجن في خصوصيته يختلف عن الزنازين الصغيرة والغرف الحمراء او المظلمة، والقاعات الفارهة والشوارع، الزقاق الضيق، المتنزه، كل منهم يترك اثرا ويحيلنا الى اماكن مشابهه قد مررنا بها فتنثال الذكريات وتؤسس لها اجنحة فنطير محلقين حول المكان لما له من سطوة وقوة في تحريك الراكد من الذكريات.
 ويتداخل المكان في الشعر بقوة، وهو ما يقصده الشاعر بالمحطات الجغرافية او المكانية التي يستحضرها، فالمكان المعرفي او الرؤيوي وهو ما يستحضره في ذهن الشاعر من امكنة. 
او المكان الخيالي او التصويري وفي الحالتين فإن الشاعر لا يبقى محصورا بين ابعاد المكان الجغرافي او الهلامي او التصويري بل نراه يقفز ويتخطى هذه الحواجز والتي من خلالها يلملم كل الابعاد المكانية الحسية ليمزجها مع المكان الفيزيائي لينتج صورة تجمع بين الواقع والرمز والمتخيل.
 يقول باشلار في (جماليات المكان) ان الانسان قادر على صنع كل شيء عدا عش الطائر).. ضمن برنامج مهرجانات المربد يخصص يوم لزيارة بيت السياب، كل من دخل البيت، المشيد من الاجر والطين يتأمل المكان، الجدران، الأرض - بالمناسبة البيت سقفه السماء- أحدهم قال متخيلا هنا كتب السياب قصيدة المومس العمياء وآخر قال هنا كتب السياب انشودة المطر، هنا نام، هنا كان يدجن احلامه 
الهاربة. 
فالبيت هو جذر المكان، جذر الطفولة، جذر الالفة والغربة، جذر الدهشة والتكرار 
الممل. 
بيت السياب لا يختلف عن بقية بيوت جيكور، إذا لماذا كل هذا التفحص والمزاوجة ما بين القصيدة والمكان؟ ولماذا نحن شممنا رائحة مميزة في هذا المكان؟ هل لأنه بيت السياب؟ ام لان القصيدة كتبت هنا؟ ولماذا كل الحضور حجوا الى نهر بويب وهو لا يختلف عن أي نهر عراقي، إذا هو المكان لما يحمل من مواصفات مرتبطة بالإبداع فلولا الابداع لما خلد المكان.