اعتراف

آراء 2021/05/11
...

 رفيف الشيخلي
المغرب من الدول المعروفة بتميزها في مجال الفكر والفلسفة. وأسماء المفكرين والفلاسفة المغاربة لها وزنها وقيمتها في العالم بأفكارها وكتبها. وربما يكون المغرب من الدول العربية القليلة التي تُدرس مادة الفلسفة ، بدءا من المرحلة الثانوية، لكني أود الحديث عن محاضرات الفلسفة في الجامعة، خصوصا كلية الآداب في الرباط، عن تجربتي الممتعة. إذ كانت حصص الفلسفة تعني لي حياة أخرى.
 
الفلسفة كما هو معروف تعلمنا على الانتباه إلى ما لا نراه عادة من فرط التعود، تعلمنا أن نسأل حتى عما يبدو مفهوما ومعروفا، أن نلغي كل ما تعلمناه لنتعلم من جديد، هي فن طرح السؤال حول ما يراه الناس بديهيا، هي شغب ذكي، شغب بالمعنى الإيجابي، عدم ركود واضمحلال، بل تجدد دائم.
كانت محاضرات الفلسفة تجعلني أنتبه إلى ما أعيشه بشكل مختلف. وهي تتناول مواضيع من واقع الحياة. الخير والشر، الحب والصداقة، الفن والفلسفة، الحرية، العدالة، وكان الأساتذة يشرحون لنا كل ذلك دون نسيان أنهم دكاترة متخصصون، أننا كي نصل إلى مستواهم علينا أن نقلدهم، نقلد منهجهم وأسلوبهم حتى وإن رغبنا أن نعبر عن اختلافنا معهم، فهم أصحاب المعرفة والأخلاق السديدة. 
وبعد تخرجي بسنوات، تعرفت على  الدكتور محمد هاشمي، صاحب كتاب  "نظرية العدالة عند جون رولز" وكتاب "جون رولز والتراث الليبرالي" كما قام بترجمة وتقديم كتاب "شرنا يأتي مما هو أبعد. التفكير في مذبحة 13 نوفمبر" لآلانباديو، عن طريق دروسه في اليوتوب ومقالاته وكتبه، بعد أن حدثني عنه عدد من طلبته ومتابعيه وقرائه، كان ما أثار انتباهي في حديثهم ليس فقط الإجماع على تمكنه وتميزه وأسلوبه، بل أيضا نبرة المحبة والفرح التي تبدو على أصواتهم وملامحهم، وهو ما جعلني أبحث عن دروسه ومقالاته وأنصت إلى كلامه بانتباه شديد، فوجدت نفسي أدمن على دروسه وانتظر المزيد منها، وأفهم ما الذي يجعله محبوبا بهذا الشكل من طلبته، فهو يتميز بصفات يندر اجتماعها لدى أساتذة الفلسفة.
منها مثلا الشغب، ولا أقصد هنا شغب الفلسفة المعروف بطرح أسئلة تزعج الأجوبة المعروفة والمتداولة، بل شغب محمد هاشمي لذيذ ومرح، إذ انه لا يكتفي بالشرح وطرح بعض الأمثلة من الحياة كي يقرب الفكرة. بل لا يجد حرجا في جعل نفسه موضوعا لعيش التجربة، فيعبر عن رفضه لما قد يراه المجتمع إيجابيا، أو العكس. أو أنه يمتاز ببعض الصفات الإنسانية التي يتعالى عليها الكثير من مدعي الأخلاق، يمكن القول انه يفعل بتصالح مع إنسانيته، من دون اللجوء إلى مساحيق التجميل والأقنعة التي يتخفى وراءها أغلب البشر، شغبه يشبه سخرية فن الكاريكاتير، كلنا نحبه لأنه يفضح العيوب بشكل ذكي وممتع بعيد عن الأذى أو الانتقاص.
وهذا يحيلنا على صفة أخرى يتميز بها الدكتور محمد هاشمي، وهي التواضع. تواضع حقيقي لا افتعال فيه. لا يقدم نفسه على أنه الأستاذ صاحب المعرفة الحقة والرأي السديد، بل هو يفكر مع طلبته وكأنه صديق لهم يناقشون موضوعا في "الأكورا". نجده يحدثهم لتقريب فكرته عن ذكرياته مثلا، عن حياته، وهذا ما لم أصادفه مع غيره، وهو فعل يخلق نوعا من القبول الوجداني للأفكار المطروحة، فتتحول بذلك إلى ما يشبه النصوص الأدبية، والأعمال الفنية، التي نحس معها بنوع من المشاركة مع الآخر، كما يحصل حين نقرأ قصيدة معبرة، يخلق ذلك فينا صداقة مع الكاتب، لذلك فإن دروس محمد هاشمي هي ليست مجرد أفكار جافة وتساؤلات، بل مشاركة، فعل إنساني.
تعلمنا الفلسفة ألا نستكين إلى الأفكار الجاهزة المتوارثة، وألا نحكم على الأمر انطلاقا من قناعاتنا وأفكارنا وميولنا، بل أن نتصرف وكأننا لا نعرف شيئا ونتعلم من جديد، وهو الأمر الذي يمارسه محمد هاشمي بالكثير من الصدق. فلا نجده يعطي انطباعا ما عن فكرة أو موضوع. ولا يحكم انطلاقا من الأفكار الجاهزة، له عبارة رائعة ومعبرة جدا في إحدى الندوات التي شارك فيها عن احد الكتب المترجمة. إذ بعد أن كان الحديث قبله عن سوء الكتاب وكثرة الأخطاء والمغالطات فيه. قال هو ما معناه: فلنتناول الكتاب بجدية. ونحاول فهم ما الذي كان الكاتب يريد قوله، ويتساءل إن كانت المغالطات من الكاتب الأصلي أم من سوء الترجمة.  وأظن ان هذا المثال يوضح مدى موضوعية الدكتور محمد هاشمي وقدرته الأخلاقية على التعامل باحترام مع أفكار الغير مهما اختلفت عن توجهاته. كما أنه يشرح بأمثلة كثيرة من الأدب والفن، وهذا يفضح مدى اهتمامه وتمكنه من مجلات ثقافية أخرى، ويعني أيضا أن كل هذه الأمور متداخلة في ما بينها، ومتأثرة ببعضها، والأمثلة كثيرة، أخيرا، أشكر كل من حدثني عن هذا الدكتور المميز فعلا، مميز بحبه وصدقه، لو أن مثله كثر لما وجدنا من ينفر من الفلسفة والفكر.