مخلوقات الخيال

ثقافة 2021/05/12
...

لؤي حمزة عبّاس
يتحدّث زكريا بن محمّد القزويني، من أبناء القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) عن السمع والبصر ويضيف لهما الفكر بوصفها سبلاً لتحصيل "حكم عجيبة وخواص غريبة"، شكّلت المادة الأولى لكتابه (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات)، وقد جمع في تأليفه علوماً مختلفة، على عادة مؤلفي كتب التراث في الحضارة العربية الإسلامية، إذ يشهد القارئ شذراتٍ من علوم التاريخ، والجغرافيا، والطب، والفلك، ناهيك عن الأدب، حاضرةً مهما تعدّدت موضوعات التأليف وتباعدت مقاصده، وقد ضمَّ كتابه كلَّ ما هو بعيد عن العادات المعهودة والمشاهدات المألوفة، معلياً من شأن الخيال في المؤالفة بين أشتات المخلوقات المتباعدة ونسج الأواصر بين غرائب الموجودات، لتكتمل فرادته "في ما لا يفي العمرُ بتجربته ولا تحصيل معناه"، وتلك، في ما أرى، عتبةً أولى مناسبة للدخول إلى مؤلف بورخس (كتاب المخلوقات الوهمية)، العتبة الثانية هي النظر في صفة المخلوقات، التي يثبتها بورخس في عنوانه، وأراجع معناها في كتاب (التعريفات) للشريف الجرجاني، من أبناء القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، وقد رأى في الوهم "الصورة التي تخترعها المخيلة باستعمال الوهم إياها"، مثلما رأى فيها "قضايا كاذبة يحكم بها الوهم في أمور محسوسة، كالحكم بأن ماوراء العالم فضاء لا يتناهى"، ومن لا تناهي الفضاء الواقع وراء العالم تنبثق مخلوقات كتاب بورخس الغريبة وقد ابتدعتها أمزجة البشر وأستلذت أهواؤهم أشباحها عبر الزمان والمكان. 
يتحدّث بورخس في معرض إشارته لمجهولية مخلوقات كتابه عن الجهل، جامعاً بين معنيي التنين والكون، فكلٌّ منهما مجهول بالقياس إلى حدود المعرفة البشرية، لكنها معرفة تستعين بالخيال على ما لا تعرف، وعلى هذا النحو يظهر التنين بأشكال متعدّدة، في عصور وأصقاع مختلفة، ويتشكّل الكون في صور لا نهائية في مختلف ضروب الإبداع، مؤكداً أن الخيال يعيننا منذ أقدم العصور على اكتشاف جهتي العالم، المعلومة والمجهولة، وبما أن الخيال في أبسط تعريفاته وأكثرها شمولاً هو القدرة على التصوّر، فإن المسخ، في تصوّر بورخس "ليس سوى مزاج من عناصر كائنات حقيقية، وبما أن احتمالات المزج تقارب اللانهاية"، فنحن حين نتحدث عن مخلوقات كتاب القزويني أو مخلوقات كتاب بورخس فإنما نفتح الباب أمام رياح الخيال، ونسمع في عزيف الرياح صوت الشاعر وليم بليك متحدّثاً عن الخيال بوصفه الوجود الانساني ذاته.
نفتح كتاباً لا على التعيين، ونتأمل ما يتقافز بين سطوره من حيوانات الخيال، طيوراً، وزواحف، وقوارض، وأسماكاً، تعتاش على اللهب والتراب، ولد بعضها من النار، وبعضها ولد من التراب أو من الماء، كما أن بعضها ولد من الرياح، هكذا يجمع المخلوقات الخيالية نسبُ ولادتها من عناصر الطبيعة الأم، وهكذا ولد الجرذ من حقيقة صغيرة واحدة من بين (حقائق الحياة الصغيرة)، وقد افتتح القول بما يشبه القناعة المستحيلة بأن "الجرذ لا يُنصت لحكاية الإنسان بتفاصيلها الحزينة غالباً والمفرحة أحياناً حسب، بل يعيش فيها، ففي كلِّ حكاية جرذٌ ينطّ من سطر إلى سطر، ويقفز من معنى إلى معنى، لو ناديت الجرذان التي تحيا، منذ أول الخلق، في شعاب القصص والحكايات، لتبدّدت القصص وطارت الحكايات مثل دخان تنفخه الريح". إنها الصلة البعيدة بين الحيوان، وهمياً كان أو حقيقياً، وبين الحكاية، حيث يقود كل منهما إلى الآخر ويؤدي إليه، وحيث يمضيان معاً لاستكشاف الحكاية ورصف طرق الخيال.
هل هو إيمان بالخرافة يجمع بين القزويني وبورخس ويضيف إليهما إنسان بدايات القرن الحادي والعشرين، يقارب بين خطاهم وهم يصعدون سلّماً في بناية مجهولة ليطلّوا من شرفة عالية بُنيت منذ أول الزمان على كلِّ ما يحيا من مخلوقات نصف العالم المجهول، لا يكون انبعاثها إلا وجيزاً بمقدار رفة جناح فراشة يملك أن يحرّك ناقوس العالم ويستنهض المخبوء في قلب الكتب من مخلوقات الخيال.