الجنون حينما يكون معادلاً موضوعيَّاً لبؤس الواقع

ثقافة 2021/05/17
...

  د.سمير الخليل
 
رواية (الموت ونصف مجنون) الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2014 للكاتب أحمد هاشم، هي قصة طويلة، أو هي (رواية قصيرة) كما اسماها القاص نفسه، يقول مؤلفها إنه ألفها في عام 1982، في حين نحن لا نرى أن الأمر هكذا تماماً، فبعض ما كتبه بين طياتها يوحي بعقد آخر، هو عقد التسعينيات من ذات القرن، حيث الحصار الاقتصادي في العراق، فهو يتحدث بالضمير (نحن): ((لقد أكلنا الخبز الأسود –علف البهائم- وبعنا كل أثاثنا وأشياء أخرى لتوفير لقمة الخبز والشاي)) (الرواية، ص24-23)، وكان ثمة ما يشير إلى مثل هذا أيضاً. (ينظر ص28). 
لعل ما في الرواية من الأثر النفسي والفلسفي والتاريخي ما لا يقل عن الأثر الأدبي، حتى أن المؤلف دفع بروايته ليقدمها له مختص بعلم النفس هو الدكتور عبد الكريم خليفة لشعوره أن الرواية ذات بُعد نفسي يجعل البطل مضطرباً.
تقوم الرواية على أسلوب اليوميات وهو أسلوب ينفع في أرشفة الأحداث وتوثيقها، وقد قفزت في ذاكرتي وأنا اقرأها مجموعة من أنماط روايات كانت قد كتبت بهكذا أسلوب، منها أسلوب الروائي عبد الرحمن منيف ولاسيما في روايته (القصيرة) أيضاً (قصة حب مجوسية) فهي أيضاً ممتلئة بالهذيان والعدوانية والاشمئزاز والقرف بل بعبارات الخروج على بعض الأنساق الاجتماعية في التعاملات اليومية، من قبيل قول الكاتب أحمد هاشم: ((لأني سأبول عليه في النهاية)). (ص163). تنتمي الرواية حسب تصنيفي إلى روايات (وجهة النظر) أو المدرسة الطبيعية وهي تقوم على تداعيات شخص واحد، محتدم الداخل نصف مجنون، يتحدث بطريقة عنفية أو مليئة بألفاظ العنف كقوله ((الإنسان يشوى كالدجاجة)). (ص27). 
ولا بد من الإشارة إلى أن (بطل الرواية) الذي لم يُعرف باسم معين وكأنه يحيل إلى كل عراقي عاش تلك الظروف القاسية والوحشية، وهو أنموذج لمعاناة الإنسان العراقي في ظل نظام سياسي قاسٍ وشمولي استلب إنسانية الإنسان وقد يكون امتداداً لشخصيات منتصف القرن الماضي أولئك الذين جمعهم كولن ولسن في (اللامنتمي)، الذي ينتقد العالم ويراه سيئاً بينما يراه العالم مجنوناً، إذن هو عاقل عدمي يملي على الناس ما يجب أن يقوموا به، ولا تتوقف نقمة البطل على ما هو محيط به بل امتد إلى كل شيء، بما في ذلك التاريخ إذ هو يفند آراء المؤرخين التي تذهب إلى إجلال الرموز التاريخية العظيمة، إذ يقول ((كان حمورابي مستبداً متجبراً ومجرماً كبيراً- المجرمون يخلدهم التاريخ ويصبحون أبطالاً... لأنهم ملوك وتاريخنا المزور الملطخ بالسخام... تاريخ ملوك وأبطال مزيفين)). 
(58-57 وينظر 70-69)، إن النقمة تظل ملازمة لشعور البطل منذ اول الرواية فهو لا يشعر بشيء جميل اطلاقاً، حتى أن الجو كان دائماً سيئاً ((كان الجو موبوءاً ومشحوناً بكل ما ينبئ عن شر ومكروه.. التراب.. الدخان.. الموت.. أرايتم دخاناً أحمر..))، (ص71)، وباختصار فالرواية تنتمي إلى الواقعية الطبيعية المغرقة بالتفصيلات والتشاؤم ومع أني أعرف شيئاً يسيراً عن الروائي لكنني استغربت نزعته المتشائمة تلك فهو كما أعرفه يميل إلى 
الهدوء والالتزام والحرص على متابعة قضاياه الخاصة، 
ولكن تجربته الأدبية في تطور كما يتضح غير أنني استطيع أن 
أضعه في قافلة أدباء الحزن والنقمة والقهر والتشاؤم والألم فهو من جيل ضجَّ بالإبداع والمعاناة والتحدي.