نزهة أيتانا الأخيرة

ثقافة 2021/05/17
...

  جمال نوري
 
أودعت سكون الليل آخر صرخاتها، وتمخّضت آلام الأيام الثلاثة الاخيرة عن طفل جميل ظل صامتاً وعيناه مغلقتان على الرغم من كل المحاولات التي بذلت لإنقاذه.. هطل الصمت مرة أخرى بعد تلك الفوضى التي اعترت الطبيب والممرضة في محاولاتهما اليائسة لاستعادة أنفاس الطفل التي أطفأتها تقلصات المرأة وصرخاتها.. هكذا ومن دون تردد هَمّ الرجل بحمل الطفل من الغرفة المجاورة لردهة الولادة، وغذَ خطاه ناشداً المصعد الكهربائي ملتمساً نسيم الليل بعد ان أُشبع 
بروائح المنظفات وعبق الحزن المتفاقم في أوصاله.. لن يسأله أحد في تلك الساعة المتأخرة من الليل إذ كان الجميع يخلدون للنوم، الخفراء من الأطباء والمضمدين والممرضين الراقدين في ردهة الطوارئ.. كل 
شيء كان يوحي بالصمت والخيبة.. 
بعد لحظات وجد نفسه يذرع الشارع محتضناً جسد الطفل الغض، كانت الاضاءة تكافح الظلام المسترخي ببلاده على البيوت والازقة والمتنزهات الخالية من كل خضرة. لم يكن ليسمع غير وقع خطواته على الاسفلت وعواء الكلاب السائبة وهي تبحث عن بقايا طعام.. لأول مرة يداهمه هذا الاحساس الغريب، ولأول مرة يترك الدموع تنهمر بلا هوادة من دون رقيب.. بإمكانه الان أن يبكي كما يشاء، لقد أعد نفسه لمثل هذه اللحظات من سنين بعيدة، إذ رزق بعشر بنات استقرت، كبراهن في بيت الزوجية. لم يتوقف عن التفكير لحظة واحدة في انتظار هذا الطفل الجميل الراقد بين ذراعيه، كشف الغطاء عن وجهه وتأمل ملامحه الشاحبة المسترخية تحت أضوية الشارع الكابية.. ذرع الشوارع وسلك الأزقة وتجنب الحفر ومستنقعات المياه الآسنة.. كاد يسقط في احدى الحفر لكنه تماسك في اللحظة الأخيرة وفطن الى أنه يحمل بين ذراعيه حصاد الليالي الثلاث المنهكة في ردهات المستشفى المسكونة بروائح المعقمات وذهول المنتظرين على أبواب الأمنيات الخاسرة.. سيمضي الان الى بيته مثل محارب مهزوم خسر آخر أسلحته مهيأ لاستقبال نظراتهن العاتبة وهو يرتكن جانباً، عليه أن يتركه على المطاولة قليلاً ليلقين آخر النظرات وليتأملن جيداً سحنته الشاحبة، وما من شك في أنهن سيكشفن عنه الغطاء ويتلمسنه بتوجس. 
كان عليه ان يمنحنهن هذا الامتياز بعد ثلاثين عاماً من الانتظار الممض وهو يدرك بيقظة حواسه المتواصلة ما يضمرن من شعور يختلط بكثير من البغض والخيبة والمذلة.. لن يحفلن به وبقامته المديدة وصوته الزاجر بعد الان، وهن يشهدن فاجعته الأخيرة.. لن ينفعه الكلام أبداً وما تبقى له غير أن يدثره جيداً بعيداً عن الأنامل العابثة بأطرافه وأجزائه الرقيقة..
قبل أن تشرق الشمس كان عند بوابة المقبرة، أية هيبة وقدسية تلك التي تلبسته وهو يدخل المدفن وحيداً مع قطعة من لحم بارد.. استقبله ضباب كثيف هبط مع الفجر. 
كان يمنع الرؤية تماماً، 
نقل خطواته بحذر شديد لكي لا يرتطم بشاهدة قبر أو يسقط في حفرة معدة لضيف 
جديد.. حاول أن يسترجع في ذاكرته صورة المقبرة لكي يزن خطواته ويحسب لها اتجاهاتها.. أيقن الآن أن الرؤية أصبحت شبه معدومة.. 
وشعر فجأة أن قبضتين 
قويتين تمسكان بذراعيه وتسحبانه بقوة وشعر وكأنه يهبط الى حفرة ضيقة شديدة الظلام أو أن شيئاً أشبه بمخالب نسر خرافي شرع يحلق به الى فضاء يغمره الصمت 
والضباب..