رعد أطياف
من المعضلات الكبيرة التي تواجهها المجتمعات التقليدية، هو ظهور فئات اجتماعية تسعى للتغيير عبر استدعاء نماذج متطورة للغاية، وبحساب الزمن تفصلنا عن هذه النماذج عدة قرون
وتبدأ الإشكالية من هنا: أمنيات جامحة بالتغيير، لكنّها لا تمتلك الأدوات اللازمة لهذا التغيير. ومن ثمّ ندخل في دائرة من الأحلام الفضفاضة، وربما تقودنا هذه الأحلام لاحقاً إلى فقدان المعنى والسقوط في العدمية. وليس بالضرورة الاعتراف بالعدمية والسقوط في اللا معنى بشكل مباشر، وإنما يتّخذ هذا الحال كيفيات معيّنة؛ من قبيل السعي المتواصل نحو التغيير في دائرة الفكر حصراً. بمعنى أن الفكر يتغيّر لكن الوقائع الخارجية باقية على
حالها.
نقرأ تاريخ الحداثة الغربية، ونبحث عن كل ما هو جديد في حقول الفكر، والأدب، والعلم، ونراقب سير التحولات الكبرى التي تحدث في العالم، ويحلو لنا أن يكون لنا دور في إبداء الرأي بخصوص هذا الشأن، ونسعى بكل قوة أن نتمثّل هذه القضايا، ونضعها في دائرة فكرنا الشخصي، ونعدها أنموذجاً تفسيرياً رائداً لتحليل واقعنا الاجتماعي. ثم نصاب بخيبة أمل كبيرة لأن الواقع الموضوعي لا يستجيب لفكرنا المتطور!. والجواب، ببساطة شديدة، لأن الفكر يختلف عن الوقائع لدرجة التنافر والعداء، ذلك إن المجتمعات التقليدية تأبى هذا الاندماج التي تراه غريباً عن سياقها الثقافي. بعبارة أخرى: الفكر في عالم وموضوعاته الخارجية في عالم آخر تماماً.
وبذلك يمكن القول، إن الفكر بما هو كذلك لا يستجيب لموضوعاته، أو العكس صحيح، لأن موضوعاته في مكان آخر، في وادٍ آخر. ولكي يحصل التغيير، وكخطوة أولى، ينبغي أن يكون سياسيًا أولًا وبالذات، وتُستَبدّل المؤسسات التقليدية بمؤسسات عصرية، لكي يتعانق الفكر مع موضوعاته. وعندها يغدو الفكر حياً ومتحرّكاً، ونرى تطبيقاته العملية على أرض الواقع، ونصم أنفسنا من عملية إسقاط آليات جامدة على الواقع. لو كنت فيلسوفاً، كما يقول أحد الكتّاب، بمنزلة أرسطو في مجتمع تقليدي كالمجتمع العراقي، لا تستجيب لك السوق الرمزية، أي أن الطلب سيكون ضعيفاً على هذا المادة العظيمة، بينما لو كنتَ شاعراً ستنال الحظوة الكبيرة في مجتمع تقليدي يبدي نفوراً غريزياً تجاه العقلانية. هذه ليست إدانة للشعر على الإطلاق، بل مقارنة سريعة توضّح لنا الحقيقية التالية: ماهي قيمة الفيلسوف مقارنة بقيمة الشاعر في مجتمع تقليدي؟ وبالطبع لا ينحصر المثال هنا بالميول الفردية، وإنما بالمجتمع عموماً. فلكي يغدو التغيير مثمراً وعملياً، ويكون للفكر دور حيوي في التغيير، فلا بد من وجود نخبة سياسية مستنيرة تسعى للتغيير، عبر تشييد البنى التحتية اللازمة للعبور إلى مصاف الدول المتقدمة. وبخلاف ذلك سيبقى الفكر تقدميًا والواقع تقليديا بامتياز.