الكتابة والزمن

ثقافة 2021/05/19
...

لؤي حمزة عباس

 
 
 
الكتابة ابنة الماضي، إنها تأتي من لحظة ما، بعيدة وليست مفهومة، حتى تلك التي تعالج موضوعاً مستقبلياً، فالمستقبل لا يتحقق في الكتابة إلا حينما يُستحضر بوصفه ماضياً من نوع فريد، الكتابة لعب حر مع الزمن، عبور مستمر للحدود الفاصلة بين أقاليمه، فليس ثمة تراتبية أو انتظام مألوف، ماض وحاضر ومستقبل، ليس سوى الكتابة تُعيد تأثيث العالم بما يُرى وما لا يُرى، تلك المهارة التي منحت الأدب، منذ أقدم العصور، ديمومته وتجدّده وخلوده. لم يكن سعي كلكامش اللامجدي بحثاً عن الخلود غير التفات لمعنى التراتبية الصارمة للزمن، تلك المادة العجيبة التي يقف الموت في نهايتها على الدوام، مهما شطّت الحياة وتباعدت، فلا تنازل، من وجهة نظر زمنية، عن أن يموت المرء وتنطفئ ذكراه مثل ذبالة نور واهن، الموت خبرة لا زمنية بامتياز، على الرغم من كونه أعمق نتائج الزمن وأكثرها صلابة وفجائعية، يدين الانسان للموت في الوصول إلى قارة الخيال البعيدة، فبوساطة الخيال جرّب أن يقترب من الموت بهدف ملاعبته والوقوف على بعض أسراره، وذلك جوهر مقاصد أوفيد والمعري وابن شهيد الاندلسي ودانتي وأدغار الان بو وأضيف لهم بورخس الذي طالما ناور الموت بالخلق المستمر لبورخس نفسه، لا أتصوّر أن ثمة دافعاً لفكرة تعدّد الذوات التي طالما شغلت بورخس أقوى من الموت والنسيان، فقد وهب العالم صوراً لا نهائية عن ذاته في محاولة منه لمواجهة قوة الموت بقوة الخيال، رجل المتاهات الأعمى حلم كثيراً بنفسه إلى الدرجة التي صار من الطبيعي أن يصادفك بورخس (أو إحدى نسخه) حالما تفتح كتاباً خيالياً من طراز ألف ليلة وليلة، أومسخ الكائنات، أو الديكاميرون، وهو من هذا الجانب شبيه بأعمى عربي زاهد سبقه قروناً، إنشغل بسؤال الزمان على طريقته فذهب إلى العالم الآخر بحثاً عن 
غفران بعيد. 
تخترقنا الكتابة وهي تجول حرّة في أقاليم الزمان، تأخذ الذاكرة إلى المستقبل، فتحكي عما لم نعش بعد كما لو كنا عشناه بالفعل، وتسحب المستقبل إلى الماضي ليغدو بدوره وقائع متذكرة، هكذا يكون منجز كتابة الماضي طيفا قادماً من المستقبل، مهما طال مسيرنا سيكون ميغيل سرفانتس أمامنا ملوحاً بأحلام فارسه المغامر وتابعه المسكين، مثلما ستكون جموع عظيمة من المؤلفين المعلومين منهم والمجهولين الذين لم يتسنَ لنا الاطلاع على روائعهم جميعاً، حاملين مخطوطات أحلامهم التي كتبت على وجهي الورقة، وجه لليوتوبيا وآخر للدستوبيا، ليس كتابة الأحلام وحدها من تملك أن تحرر الانسان من ربقة الواقع وتخفف من جسامة وقائعه، كتابة الأوهام ايضاً تملك مثل هذا السحر والحضور، بين سطورها نجد أناساً يشبهوننا، مهمتهم الكتابة أيضاً، كل ذلك من أجل أن نتأكد أننا وما نحاول كتابته محض أطياف عابرة في خلد حالمين سابقين. إن كاتباً واقعياً عتيداً مثل مكسيم غوركي في مقال له بعنوان (كيف تعلمت الكتابة؟)، يجعل الوعي قرين الخيال وكلاهما "تفكير عن العالم"، وهو لا يقدم أحدهما على الآخر، ولا يعلي من منزلة الخيال على حساب الوعي، أو الوعي على حساب الخيال، بل يجعل منهما معاً مادة للتفكير، أن نتخيل نفكر أيضاً ونزداد وعياً بالتجارب الزمنية المحكومة بالمضي إلى الأمام، فاعلية التخييل التي يتمتع بها الابداع تجعل منه خارج الحدود الزمنية، ولادته في زمن معين لن تجعل منه أسير زمنيته، فالتخييل كفيل بدحض مثل هذا التصور والتحرر من أعباء الزمن، إنها واحدة من مهمات الابداع العظيمة، وهي المهمة التي يمكن أن ينجو الانسان بوساطتها من حدود وجوده الصارمة، إنها جوهرة الخيال، فإذا كان العقل جوهرة الإنسان، فإن الخيال جوهرة العقل، معدنه المشعّ ونبعه الذي لا ينضب أو يجفّ. الخيال كلمة السحر، مفتاحه الذي لا يصدأ، وباب المجاز الذي يُخبئ خلفه ألف باب.  ليس الخيالُ نقيضَ الواقع، ولا ندٌ له، إنه الضوء الذي تُستكشف بوساطته طبقات الواقع لنعرف بعض ما يُخبئ من خفايا وأسرار..