زواج المعجنات

الصفحة الاخيرة 2021/05/19
...

حسن العاني 
ربما الى سبعين سنة مضت او دون ذلك، كما تقول ذاكرتي، كان (اعداد) المعجنات المنزلية في العراق (الكليـﭽـة) هو احدى ظواهر عيدي الفطر والاضحى، لأنها مما يقدم للضيوف مع الشاي، ولكن صناعتها ارتبطت بالعديد من التقاليد الاجتماعية، فقبل حلول عيد الفطر مثلاً بيومين او ثلاثة، تبدأ الاسر حتى الفقيرة منها بتوفير مواد (الكليجة)، وهي (الطحين والدهن الحر والتمر والسمسم)، والاسر الميسورة الحال تهيئ في العادة كميات كبيرة، فقد تشتري اكثر من خمسين كيلو غراماً من الطحين، وبالطبع تزداد كميات المواد الاخرى، وآية ذلك ان هذه الاسر تحسب حساب الجيران، فربما توزع (مواعين) الكليجة على اربعين او يزيد من البيوت، من دون أن نغفل وجود اسرة هنا او هناك تنشد من وراء تلك الكميات الكبيرة شيئاً من الفخفخة 
والمباهاة!.
وأياً كان الدافع فقد قاد هذا الامر الى عرف اجتماعي يتمثل (بالعونة)، فالبيت الذي ينوي عمل المعجنات المنزلية، "يبعث خبراً" الى نسوان الطرف وبناته، وهكذا يستقبل اهل الدار عدداً كبيراً من النسوان يتوزعن بين مراحل الاعداد، من (العجن) وصناعة النوع المعروف باسم (الخفيفي) المطرز بالسمسم، او النوع الاخر وهو (كليجة التمر)، ولم تعرف بغداد يومها حشوة الحلقوم او المبروش او الجوز، الى آخر مرحلة وهي الشواء بتنور الطين، كان هذا التعاون الجماعي من امتع المتع، ليس فقط  لأنه مرتبط بالحكايا والسوالف والضحك والمزاح والغناء، بل قبل ذلك وهو الاهم، إن كل فتاة تحضر وهي في قمة زينتها، وتُظهر في اثناء عملها افضل ما لديها من مهارة وشطارة وخفة دم وخلق رفيع، لان عيون ام فلان او فلان او فلان تراقب وترصد بحثاً عن عروس لابنها، (كانت الام هي التي تختار العروس يوم كانت مفاهيم الجمال - في الغالب - تقررها والدة الشاب وليس العريس!)، وهكذا تبدو تلك الليلة مزاداً سرياً لأفضل بضاعة تفرض نفسها على المشتري، وذات يوم سمعت والدتي تقول عن جارتنا مديحة: "تستاهل مدوحة، خوش بنية.. ولو زواجها زواج كليجة!".