الإنسانيَّة الموزعة بين جهات الكون في طشاري لإنعام كجه جي

ثقافة 2021/05/23
...

  دعد ديب   
 
عرفت البشرية موجات متتالية من الهجرات السكانية من منطقة لأخرى تبعًا لعوامل مختلفة، منها تلمساً لأسباب الحياة من جهة وهرباً من عسف الطبيعة القاسية من جهة أخرى، إلى أن غدت بآخر مرحلة هرباً  من عسف وجور الإنسان، والأوطان التي تفرغ من أبنائها هي الوجه الأبرز للظاهرة التي رصدتها الروائية انعام كجه جي في (طشاري) اصدار دار الجديد ببيروت، وهي العمل الثالث لها بعد «سواقي القلب» و»الحفيدة الاميركية» وهي الرواية التي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر العربية لعام 2014، إذ تعني حسب تعبيرها رواية من فقد مسقط الرأس ومهوى القلب.
باسترجاع تاريخي لتفاصيل الحياة العراقية تسرد قصة الطبيبة وردية التي ناضلت لإحياء الطبيعة الحية والأصيلة في موطنها على أكثر من صعيد، المرأة المتعلمة والعاملة التي تحفر طريقها في صخر الواقع المبتلي بالجهل والتخلف بهدوء وصبر القناعة العميقة بإعادة إحياء الروح الحضارية الضاربة في تاريخ المنطقة.و
من ناحية أخرى تسليط الضوء على فسيفساء المجتمع المتآلف في الماضي وبانوراما تشكيلاته الطائفية والأعراق والاثنيات المتعايشة جنبًا إلى جنب، إذ تقدم الزمن إلى الأمام يرافقه انكفاء في الفكر والوعي الاجتماعي لهذه البقعة من الجغرافيا التي تتوافر فيها كل مقومات الانطلاق من الثروات الطبيعية والتاريخ الضارب جذوره في المكان، طاقة البشر العالية للحياة حيث كان المجتمع يمور بالفن والشعر والعلوم، لتكون بمدارات عيون الذئاب التي أخذت تقطع أوصال هذا البلد، لتنتهي الطبيبة ابنة الثمانين عاما هي وأفراد أسرتها مهجرين خارج العراق، كل في بلد هندة في كندا؛ ياسمين في الإمارات؛ براق في أحد الجزر النائية؛ تلتهمهم حمى الحياة في دورانها المتسارع للبحث عن الرزق وإدراك النجاح في عالم غريب اضطروا إليه وهم يهربون من الموت، هذا الموت الذي يمتد ليسكن في لاوعي سلالة من رحلوا متجسّدًا في المقبرة الافتراضية التي يبرمجها اسكندر ابن ابنة أخيها في باريس، تعبيرًا عن أمنية بعيدة في أن يجمع المشتتين ولو في مقبرة وإن كانت افتراضية، فحتى القبر صار عزيزًا في الوطن؛ لذا كان أقصى الحلم في مكان على شبكة عنكبوتية يضمهم موتى.
تتنوع أصوات الساردين للحدث بين الطبيبة وابنتها وحفيدها بقالب أشبه بسيرة ذاتية موصوفة، وان كان بنبرة متشابهة عبر تنقلات في الفضاء السردي بين ماضٍ وواقع آنيٍّ ومستقبلٍ في مقبرة مفتوحة عبر انفعال رافض للواقع ومجبر عليه بآنٍ واحد، إذ الشخصيات تعكس ردود أفعال مباشرة حول حدث لا يمكن استمهاله أو القبول به.
الاستعراض الذي يبذله أولو الأمر والكهنة في دول المنفى باستقبال الأقليات المهجرة بصفتهم حماة له، باحتفال كرنفالي ما هو إلا تجميل للجريمة وإخفاء لها وتكريس للشرخ الطائفي بين أبناء الوطن الواحد بوضعهم أعداء تجاه بعضهم البعض، لحرف الأنظار عمّن موّل وغذى وأنشأ الميول المتطرفة وأسهم بتكريس التخلف والتشرذم من الفاسدين في داخل البلاد وخارجها، بإيحاء رمزي لافت عندما تصف اليد الممدودة للبابا وهو يقوم باستقبالهم بأنها من الخزف الأبيض بيضاء وقاسية وعينيه زرقاوين زجاجيتين.  
هو النفي والتهجير والحرب القاذفة في أتونها جميع الفئات والأعراق أضاءتها الكاتبة بدقة احترافية في العراق لنرجع ونشاهد ذات السيناريو يتكرر في سورية، حيث الذبح والخطف والقتل على الهوية والدمار يحيط بالمدن، قليل من الذاكرة يرشد للمشكلة التي تتكرر وتحصدنا المآسي باستمرار وتقذف بالإنسان خارج مسارات حلمه ليعيش مستجدياً فضائل الآخرين وأرضه تمور بالخيرات،  فالمشهد الذي ترصده كجه جي بالعراق سبق وتكرر في فلسطين بفعل عدو سافر، ويتكرر اليوم في سورية، الحرب التي تقذف أبناءها إلى بلاد الاغتراب والمنفى، غير أن الأمل بالعودة إلى الوطن هو الحلم الذي لا يموت، تجسدت بإدراجها بداية لكلمات شاعر العراق بدر شاكر السياب:
«لو جئت في البلد الغريب 
ما كمل اللقاء
الملتقى بك والعراق على يدي 
هو اللقاء».
 
 ولتأتي كلمة طشَّاري عنوان الرواية المغرق في محليته تعبيرًا عن الشتات الذي يضيع به أبناء العراق بقولها على لسان البطلة وردية شماس العراقيون يولدون أفرادًا ويموتون جماعات كناية عن الموت الذي يفتح فمه فاغراً لمن بقي ولم يهاجر، فهل يتوقف
يومًا؟؟.