الأدب والأدب الشعبي

ثقافة 2021/05/23
...

  صفاء ذياب
ما زال مفهوم الأدب الشعبي ملتبساً في الكثير من الدراسات التي تناولته في البحث والتطبيق، فهذا المفهوم يخضع لمتغيّرات عدة بحسب زمن تناوله والثقافة التي تنتجه، وسبب هذا الالتباس اقتران (أدب) بـ (شعبي)، فلكل مفهوم من هذين المفهومين سياق خاص به، ومن ثمَّ لاقترانهما نتج هذا الالتباس. فمفهوم (أدب)، على الرغم من وضوحه، إلا أن أغلب الباحثين يختلفون في تعريفه، وبحسب ابن منظور، في لسان العرب “الأدب: الذي يتأدب به الأديب من الناس؛ سمي أدباً لأنه يأدب الناس إلى المحامد، وينهاهم عن المقابح. وأصل الأدب الدعاء، ومنه قيل للصنيع يدعى إليه الناس: مدعاة ومأدبة”. غير أن الأدب اصطلاحاً يذهب بعيداً عن كلام ابن منظور.
 
إذ يوضّح الدكتور محمد التونجي في (المفصل في الأدب) أن للأدب معنيين: “معنىً مادي من: أدب مأدبة، بمعنى أولم وليمةً. ومعنىً روحي تطوّر مع الزمن”. ومع تطوّر كلمة (أدب) منذ العصر الجاهلي التي كانت تعني الخلق النبيل الكريم، وما ورد في المأثور (كاد الأدب أن يكون ثلثي الدين)، حتى شاعت كلمة أدب وتعددت مشتقاتها، وصولاً إلى القرن الأول للهجرة، فاستعملت في معنيين متمايزين: المعنى الخلقي التهذيبي: وهو تمرين النفس على الفضائل. المعنى التعليمي: وهو استند إلى رواية الشعر والنثر، وما يتصل بهما من أنساب وأخبار، وأمثال ومعارف. باستثناء العلوم الدينية والدنيوية
 والفلسفية.
من جانب آخر، يشير تودوروف في كتابه (مفهوم الأدب) إلى أنّه “لا يتوفر لدينا هنا معيار داخلي يتيح لنا تحديد كل عمل فني (أو أدبي)، بل التأكيد على ما ينبغي على جزء من الفن (الجزء الأفضل) أن يقوم به”، والمعيار الذي يتحدّث عنه تودوروف هنا هو المعيار الوظيفي للأدب، الذي يرى أن أي معيار يمكن الحديث عنه يبعدنا عن فحص ماهية الأدب ومفهومه، ويعيدنا إلى المفاهيم الاجتماعية التي لا شأن لها بالتعريفات، بقدر تأثير هذا الفن أو ذاك بالمجتمع. لكنّه يعود للبحث عن تعريف للأدب، معتمداً على خاصيتين: “فالفن نوعياً (محاكاة) تختلف باختلاف المادة المستخدمة. فالأدب محاكاة بالكلام مثلما التصوير محاكاة بالصورة. لكنه تخصيصاً ليس أيما محاكاة، لأننا لا نحاكي الواقع ضرورةً، بل نحاكي كذلك كائنات وأفعالاً ليس لها
وجود.
إن الأدب تخيّل”، طارحاً بذلك تعريفاً آخر للأدب، وهو مفهوم (الجميل) الذي تبلّور نهاية القرن الثامن عشر “ضمن تأكيد للطابع اللازم للمؤلف، لا للطابع الأداتي”. وتعريف تودوروف هذا يذهب مع رأي وارين وويليك، مبتعداً بذلك عن وظيفة الأدب، “ذلك أن التشديد على أي وظيفة كانت (مرجعية أو معبرة أو براغماتية) يمضي بنا خارج حدود الأدب، إلى حيث تتبدّى قيمة النص في
ذاته”.
ومثلما اختلف النقّاد في تحديد مفهوم الأدب، فقد كان مفهوم (الشعبي) مبعث اختلاف أيضاً، فأعطى رايموند ويليامز أربعة معانٍ مختلفة له هي: “(محبوبة جداً من قبل العديد من الأشخاص)، و(أنواع دونية من العمل)، و(أعمال تم إطلاقها عن قصد لكسب ود الشعب)، و(الثقافة المصنوعة فعلاً من قبل الناس لأنفسهم)”، هذا التوصيف الذي أطلقه ويليامز على الشعبي قصد به كل ما ينتجه الشعب، إن كان أدباً أو فناً أو كلاماً عاماً لا ينتمي للأدب أو الفن، هذا الالتباس وعدم تحديد المفهوم والمصطلح كان حاضراً مع محمد الجوهري الذي أشار في كتابه (علم الفولكلور) إلى أنَّ هناك تسميات متعددة لهذا الميدان، و”اختلف الباحثون في تحديد موضوعاته التفصيلية التي تندرج تحته. واستغرق ذلك جدلاً طويلاً ليس هذا مجال الخوض فيه. ولكننا يمكن أن نقول إنه يسمى أحياناً الأدب الشعبي- كما فعلنا هنا- أو الأدب الشفاهي Oral Literature، أو الفن اللفظي Verbal Art أو الأدب التعبيري Expressive Literature».  
لكننا إذا أردنا أن نفهم مصطلح الأدب الشعبي، فيحدده عبد الحميد يونس في كتابه (الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي) بقوله: “هو القول الذي يعبر به الشعب عن مشاعره وأحاسيسه أفراداً وجماعات. فهو من الشعب وإلى الشعب. يتطور بتطوره، وهو غذاؤه الوجداني الذي يلائمه كل الملاءمة وليس ينفعه غيره. وهو يمتاز من سواه بسمات نجدها في سائر أنواعه وأقسامه التي تتناقلها الأجيال”. 
تعريف يونس للأدب الشعبي، لم يكن نهائياً، فهو في هذا التعريف لم يعطِ حدوداً واضحة لهذا الأدب، بل كان كلامه عاماً. غير أنّه في كتبه التي جاءت بعد ذلك تعمّق في تفاصيل هذا المصطلح، ففي كتابه معجم الفولكلور، أشار إلى أنَّ الأدب الشعبي “مصطلح جديد يدل على التعبير الفني المتوسّل بالكلمة، وما يصاحبها من حركة وإشارة وإيقاع؛ تحقيقاً لوجدان جماعة في بيئة جغرافية معيّنة أو مرحلة محدّدة من
التاريخ”. 
مضيفاً أنَّ مدلول هذا الاصطلاح اختلف باختلاف المدارس الفولكلورية والأدبية، “فقد كان يعني في الدول اللاتينية كل ما يعنيه مصطلح أصبح مرادفاً للفولكلور، ثم حدّد مجال الأدب الشعبي بعد أن أصبح الفولكلور علماً قائماً برأسه، له مناهجه ومجالات بحثه. والأدب الشعبي جزء كبير من المأثورات الشعبية، وهو ليس الأدب العامي. ويتّسم بكل ما تتسم به المأثورات الشعبية من العراقة والتلقائية الظاهرة، وغلبة العرف، ووجود المضامين الثقافية، إلى جانب المرونة في التطوّر والجهل بمؤلف النص في معظم الأحيان” بحسب الجوهري. وفي طرحه هذا أعطى أكثر من سمة لهذا الأدب، فهو يختلف عن الأدب العامي من جهة، ويحتوي على مضامين ثقافية جُبلت عليها الجماعة التي تنتجه، ويتّسم بالمرونة، أي أنه ليس نصّاً جامداً، بل يحتمل الحذف والإضافة، فضلاً عن أنه في الأغلب مجهول المؤلف.
يقدم الباحث أحمد رشدي صالح، في كتابه (الأدب الشعبي) ثلاثة تحديدات بشأن هذا الموضوع، الأول: “ما يزال تحديد الأدب الشعبي أمراً يختلف عليه النقاد ودارسو الأدب، بيد أنَّنا نجد تحديدات ثلاثة تهمنا: فنقاد الأدب المتأثرون بآراء الفولكلوريين من أمثال بول سبيو يرون أن الأدب الشعبي لأية أمة هو أدب عاميتها التقليدي، الشفاهي، مجهول المؤلف، المتوارث جيلاً بعد جيل ومؤدى هذا الرأي إسقاط أدب العامية الحديث الذي أذاعته المطبعة ووسائل النشر الحديثة الأخرى من مسرح وإذاعة وسينما، لأنه يتوافر فيه ركنا تجهيل المؤلف والتوارث التقليدي”. في حين يعتمد أصحاب الرأي الثاني “وسيلة أداء التجربة الفنية (اللغة) ميزاناً للحد، وهم في ذلك مثل أصحاب النظرة السابقة، ولكنهم يذهبون إلى أوسع مما يذهب إليه السابقون، فيرون أن الأدب الشعبي هو أدب العامية، سواءً كان شفاهياً أو مكتوباً أو مطبوعاً. وسواءً كان مجهول المؤلف أو معروفه، متوارثاً عن السلف السابق أو أنشأه معاصرون ومعلومون لنا”. هذان الرأيان لا يفرّقان بين الأدب الشعبي بوصفه نتاج تقاليد المجتمع الثقافية، وبين ما يكتب أو ينشر أو يؤدى باللغة العامية، وعلى الرغم من أن صالح يطرح هذين الرأيين، إلا أنّه لم يولهما أهمية في طرحه للأدب
الشعبي.
في مقابل ذلك، تبيّن الدكتورة نبيلة إبراهيم حدود مصطلح (شعبي) وتميّزه عن غير الشعبي، في كتابها (سيرة الأميرة ذات الهمة) فمن وجهة نظرها، “معنى شعبيته أنّه ينتمي إلى الشعب وحده بما له من تراث وتقاليد وعادات. هذا الشعب الذي يتكوّن من أفراد تربط بينهم ربطاً قوياً صفة الجماعية يستقبل تراثه بما فيه من عادات وتقاليد وأغنيات ورقصات وقصص، فيتسلمه كتلة واحدة، ويحافظ عليه، ويعمل على إضافة الجديد إليه مما قد يكون له صدى للأحداث المعاصرة. وقد يكون لهذا التراث الشعبي أصله الفردي كما قد يكون له أصله الجماعي منذ البداية، ولكن هذا الأصل قد تتعلق به الجماعات، ونتيجة لذلك يصبح شعبياً، وما يلبث اسم المؤلف الأصلي أن يذوي ويصبح المحرك الأول لهذا التأليف هو
الشعب”. 
ما يلفت الانتباه في كلام إبراهيم، نقطتان، الأولى أنَّ النص يسمى شعبياً حين يتسلمه الشعب كتلة واحدة، ومن ثم يضيف عليه الجديد. النقطة الثانية يتّفق عليها دارسو الأدب الشعبي، وهي أن النص الشعبي نصٌّ قابل للحذف والإضافة في كل زمان ومكان، وهو ما نراه في الحكايات الشعبية التي تروى في أكثر من مكان وثقافة، لكن هناك تغيّرات في النص الواحد تتبع البيئة والثقافة والتقاليد الاجتماعية لكل مكان أو بلد، لكنها لم توضّح كيف أن الشعب يتلقّى النص الشعبي كتلة
واحدة.
وعلى الرغم من الخلط بين الأدب العامي والأدب الشعبي، غير أن دارسي الأدب الشعبي يؤكدون أنَّ من أهم خصائص هذا الأدب هو صدوره عن الوجدان الجمعي، وهذا الوجدان؛ يعني بالضرورة، مجهولية المؤلف، فإذا كان الأدب الشعبي معروف المؤلف خرج من كونه شعبياً إلى فرديته، غير معنيين بلغة النص، بل بتداوله وما يطرأ عليه من الحذف والإضافة اللذين يعدّان سمة من سمات الأدب الشعبي مقابل الأدب العامي المدوّن من جهة، والرسمي من جهة أخرى.