الذات المجروحة والاشتباك النفسي في رواية (البـطــة الـخـضـراء) لسامــي الـبـدري

ثقافة 2021/05/24
...

  رنا صباح خليل 
عند قراءة رواية (البطة الخضراء) للروائي سامي البدري تصدح في الاذهان نظريات العالم فرويد، إذ علينا الارتكان الى ما قاله قبل الخوض في تفاصيل العمل ونتاجه ومن ذلك «إن المشاعر النفسية من حب وكراهية وحزن وقلق وغيرها ذات طبيعة فطرية تولد مع الانسان، وتمتلك طاقة تحرك النشاط النفسي للشخص وتوجهه نحو إشباعها، لكنها ربما اصطدمت بعوائق خارجية مصدرها المجتمع؛ لمخالفتها الأشكال والأساليب المتبعة في هذا النشاط للقيم الأخلاقية السائدة فيه.
 
وهذا ما يقود إلى كبت الانفعالات والأفكار التي رافقت أو نجمت عن حرمان الغريزة من الإشباع»(1) فإننا عندما نتفحص هذا القول ونتوجه للرواية يمكن لنا أن نرصد كماً من الشخصيات المزدوجة نفسيا، وتتبين لنا زوايا تبئير متعددة، بل متناقضة تكاد تشق النص الى مناحي متعددة حتى داخل الشخصية الواحدة؛ ذلك ان (باسم علي عبد الجليل) الشخصية المركزية في الرواية وقرينه أو قرينته حسب ما يذكرها المؤلف تذكرنا بشخصية راسكولينكوف في رواية الجريمة والعقاب لدستوفسكي، فالشخصيتان تقدمان مقاربة للجريمة والعقاب من منظور سايكولوجي عبر دور البطل في الروايتين، وهذا البعد لم يكن بمعزل عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المجتمع الروسي بعد الغزو النابليوني له آنذاك أو المجتمع العراقي في هذه الرواية، وما شهده من توترات وتغيرات متسارعة بعد سقوط النظام الصدامي فيه. 
تفتتح الرواية بجريمة قتل يعترف بها الصحفي العاطل عن العمل (باسم علي عبد الجليل) للمرأة التي احبها وهي (مروة) والسبب كان لعدم منحها جسدها له، وتتم اجراءات التحقيق معه في مخفر الشرطة لينال اقسى ما يمكن ان يمر به الفرد من انتهاكات جسدية ونفسية، يتم هذا كله قبل أن تظهر شخصية القرين الذي يأخذ هيأة امرأة تتضح هيمنتها في الرواية بعد أن تتم عمليه تهريبه من أيادي المحققين على يد أحد الأشخاص المجهولين بالنسبة له، ليتبين في ما بعد أنه يحتل منصب وكيل وزير وأن له مصلحة في قتل الضحية (مروة)، ومن ثم يبدأ الدور الفعلي للقرين عندما نكتشف هلامية شخصية باسم واضمحلالها، بعد ان تتم السيطرة عليه وقيادته نحو القتل من قبل القرين ليرتكب اكثر من جريمة قد تصل الى ستة اشخاص أو اكثرعلى مدى الروي وجميعها تتم من دون إرادة منه ويندم عليها لاحقا. 
تملك الرواية قدرة خاصة على جعل شخصياتها مقبولة وكأّنهم أشخاص واقعيون يخوضون تجربة معاشة، أو يمكن أن تُعاش لدرجة أننا نشعر إزاءهم بالتصديق، ولا تردد لدينا في الاعتراف بمهارة الروائي في خلق شخصيات حقيقية إلى أقصى درجة ممكنة، بل إنه يذكر في احدى عتبات الرواية أنه لا يتوانى عن الاعتراف بأن اي شخص يشعر بأن الرواية تقصده له ذلك ولا اعتراض عليه، ولا غرابة في هذا، فالكاتب يستطيع من خلال عرضه لواقع التجربة الإنسانية لدى الشخصية، أن يقف على طبيعة الكائن البشري وكيفية إدراكه لغاياته والدوافع التي تحركه فيظهرها كخلاصة مصفاة مركزة لطبيعة الإنسانية برمتها وكان سبيله في ذلك أن جعل (باسم) يتحدث وهو الراوي العليم عبر مونولوجاته وقصه لنا ما حدث قبل مقتل مروة، التي كانت تضاجع كبار المسؤولين في البلد وتمنع نفسها عنه، ومن ثم يقطع الحديث عنها ليتم الحديث في الرواية عما جرى بعد مقتلها من ممارسات القتل التي يظهر فيها تارة بعدوانيته وتارة ذلك الشخص السوي الذي له آمال صحفي يرغب بتأسيس جريدة على غرار الجريدة الفرنسية، التي تعنى بالفضائح تحت مسمى البطة المقيدة ليتخذ هو اسما لجريدته (البطة الخضراء) بغية كشف ما يحدث من فساد واطماع وضياع الحقوق في المنطقة الخضراء وبذلك توجه نحو البعد السياسي في الرواية، وما اتخاذ الروائي اسم الجريدة اسما للرواية إلا ليثبت أن ذلك المكون السيكولوجي الازدواجي في شخصية باسم وهو يعيش حياة كثيفة بتفاصيل وجودية على اساس حالة التعدد التي اخترقته وشرخت حياته نصفين: شخصيته المغمورة كصحفي عاطل عن العمل، وشخصيته الثانية المبتكرة التي تعزز حالة الايهام والدهشة لدينا لدرجة اقتناعنا بفعلية وجودها، ويمكن عدها الوسيلة التي عن طريق تحقيق رغائبها ووصف كيفية تواجدها بين مجريات الأحداث أن تتعرى الانتهاكات الجسدية لأولائك المومسات ومن ضمنهم (مروة)، وبالتالي فهي رواية الازدواجات والانفصامات الكبرى على مستوى قادة البلد والقائمين 
عليه. 
الرواية تقوض زيف التراص في ادعاءات الكائن كفرد، لها القدرة على سحب قارئها الى الاصقاع النائية من هشاشة الانسان وهلاميته، وما اصعب الافصاح عن تلك المناطق الغائرة في حياة الفرد والجماعة، وما السبيل لها الا بالارتكاز على الجانب الجنسي الذي ظهر جليا بممكنات متعددة تخترق الذات الجريحة لامرأة تمارس الجنس رغما عنها، وهي مروة و رجل يثأر لكرامته بممارسة الجنس مع أي صنف من النساء لتمنُع حبيبته عنه بعد ان اغدقت الآخرين بعطاياها لتوصله لجنون يوصله للقتل، فمن الجوانب التي تظهرها الرواية جانب الظلم في الحياة الاجتماعية التي يحياها الإنسان مع بني جنسه، ذلك الظلم الذي هم ليسوا بعيدين عن ممارسته إزاء بعضهم البعض؛ ولهذا يرى فرويد أن الإنسان ليس «بذلك الكائن الطيب السمح، ذي القلب الظمآن إلى الحب، الذي يزعم الزاعمون أنه لا يدافع عن نفسه إلا متى هوجم، وإنما هو على العكس كائن تنطوي معطياته الغريزية على قدر لا يستهان به من العدوانية». كما يرى أن «الإنسان نزاع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب قريبه، وإلى استغلال عمله بلا تعويض، وإلى استعماله جنسيا من دون مشيئته، وإلى وضع اليد على أملاكه وإذلاله، وإلى إنزال الآلام به واضطهاده وقتله (2). 
 
الهوامش: 
(1) عامود، بدر الدين. علم النفس في القرن العشرين. دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 022 
(2) فرويد، سيغموند. قلق في الحضارة. ص72 ترج. جورج طرابيشي، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر.