البرجوازيَّة وأثرها في تطور الفن

الصفحة الاخيرة 2021/05/25
...

سامر المشعل 
ارتبط الفن عبر مراحله التاريخية بطبقة من الارستقراطيين والخلفاء والملوك والامراء والباشوات.. وكانت يقدم في قصورهم وحدائقهم نوع من الفن النخبوي، الذي يرتقي عن الفن الشعبي، الذي يتعاطونه عامة المجتمع، فهم يتمتعون عادة بذوق عالٍ وثقافة فنية وتعليمٍ في أرقى الجامعات العالمية، بل منهم من يعزف الموسيقى ولديه خبرة تجعله يتحسس جمال الفن، لذلك كانت قصورهم تضم على الدوام خيرة الادباء والفنانين والموسيقيين.
وقد أسهمت الطبقة البرجوازية، في تطور حركة الفن ورفعته بشكل لافت، منذ عصر زرياب واسحاق الموصلي، في زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد، اذ كانا من الموسيقيين المقربين الى الخليفة، وعندما شعر اسحاق الموصلي أن تلميذه زرياب اخذ ينافسه على مكانته عند الخليفه، هدده بالموت، فاضطر الى الهرب والاستقرار في الاندلس ومن هناك نشر فنه وموسيقاه. في الغرب نجد الصورة أكثر نصاعة، فقد كان موزارت وبتهوفن وشوبان يقدمون موسيقاهم ومؤلفاتهم في قصور الامراء.. ولهم يعود الفضل في نهضة اوروبا موسيقيا.واذا عدنا الى العراق، فان السبب في نهضة الفن والموسيقى بالعصر الحديث يعود الى النظام الملكي، من خلال افتتاح معهد للموسيقى في العام 1936 على يد الشريف محيي الدين حيدر وهو من الأسرة المالكة، مثلما هو موسيقي من طراز خاص وله العديد من المؤلفات الموسيقية، والذي أصبح في ما بعد بمعهد الفنون الجميلة، والذي جذب خيرة الاساتذة للمعهد من مختلف أنحاء أوروبا، ومن هذا المعهد انطلقت الكثير من الطاقات الابداعية مثل منير وجميل بشير وجميل سليم وسالم حسين وخالد محمد علي وعلي الامام.. وغيرهم. بالنسبة للفن الذي يقدم في قصور الامراء والباشوات كان الاقرب الى نظرية الفن للفن، في توفر عناصر الابداع والتكامل الفني، تماهيا مع تعريف الفيلسوف «كانت»  للجمال: «بانه احساس بالراحة بعيدا عن المنفعة». آلة البيانو كانت جزءا من اثاث بيوتهم، فهي إحدى علامات الرقي الحضاري والحياة الارستقراطية. كلمة بيانو هي مختصر لكلمتين ايطاليتين هما «بيانو فورتا» وتعني الرقة والليونة والشدو، وقد انتشرت هذه الالة الغربية الى البلدان العربية، وكانت تقام حفلات للبيانو في بعض الدول العربية مثل مصر ولبنان وتونس والعراق.. ترتادها الأسر البرجوازية بزي رسمي خاص بالنسبة للرجال والنساء.
كانت والدة الشاعر مظفر النواب تعزف آلة البيانو، اما الموسيقار الياس رحباني، عندما سمع البيانو وهو بعمر اربع سنوات من نافذة غرفته، التي تطل على مدرسة للراهبات الفرنسية، فاعتقد ان صوت البيانو هو احد أصوات الطبيعة مثل خرير الماء أو هبوب الرياح، ثم تعلم الياس رحباني العزف على البيانو بسن مبكرة، وأصبح احد رموز الموسيقى العربية.
الموسيقار عمر خيرت الذي يعد واحدا من اهم عازفي البيانو في الوقت الحالي، فيرى ان الموسيقى يفترض ألا تقتصر على دار الاوبرا، انما تتخطى ذلك الى كل شرائح المجتمع، وبالفعل قدم العديد من الحفلات المجانية على الهواء الطلق، وهو من أسرة عريقة ومثقفة، والده الموسيقار والمهندس المعماري ومؤسس الكوفستوار المصري ابو بكر خيرت.
في السنوات المتأخرة افتقدنا لدور الطبقة البرجوازية في العراق والبلدان العربية ودعمها للفن الراقي والنخب الفنية، وظهرت بدلا منها طبقة برجوازية حديثة تفتقر الى الذوق والثقافة الفنية، واخذت تعكس ألوان التخلف والانحطاط الغنائي الذي يتناغم مع انحدارها القروي والبدوي.