المشي على حبل الكلام

ثقافة 2021/05/25
...

  ناجح المعموري
شاعر تعاد قراءته مراراً، يمنح فرصاً مغايرة كلما استعاده القارئ، وكأنه ينتزع قشراً عن نصوصه ويكشف المختفي، بمعنى النص الذي لم يلتقط، ويفاجئ اللحظة التي يكون النص مولوداً قبلها. للنص في تجاربه لحظات، الزمن متوتر وهو يدور المكان. سرديات نصوصه هادئة حتى عندما تكون مشحونة بالخيبة والاحباط وظلام الحزن. 
لكنها تبث فيها التوقع. 
 
الحلم، الانتظار، ترقب الذي يأتي، عناوين دواوينه راشحة عن ازدواج المشاعر {مرايا الحب/ مرايا النار}، {حضور متأخر جداً}، {رماد الاسئلة}، {أصابع المطر}، {شهرزاد تخرج من عزلتها}، {على قيد الحب}، {النوافذ لم تغلق بعد}. وبين كل نصوصه يمسك بالمتخيل ويعيد تدوير الحضور وتتمظهر سردياته النصية مغايرة. يستدعي الاختلاف ويكرس اليومي الطافي وسط البساطة والليونة، حتى تبدو نصوصه ارتعاشات سريعة، تومض مثيرة حساسية متسامية ولا يغادرها الشاعر بل يكرر ما التقط ويلعب به وعليه. 
ويفيض ما عنده من كوامن في أعماق الشعر وروح المتوقع المتأخر، حتى ينبض النص بالذي كان قبله. وتومئ تجربة الشاعر حبيب السامر على حياة باقية وحتمية، هي باقية، حتى وسط زمن متوتر بالحزن والألم ويمد أزمنته ومواقيته وكأنها متصلة بوثاق التتابع، ويضفي على الحياة ما يشتهي الشعر ويحلم به "فالليل عشيق النهار" مثل هذه العلاقة المرتعشة باللذائذ تذكر المتلقي بالسرديات، وكأن الشاعر يريد أن يسرب الينا ما تكتمت عليه مخزونات الذاكرة التي أعاد انتاجها الشعر وسوّرها دلالة تلتمع بما يريد لها من طاقة في المثول وقوة التحفيز لإدامة التآلف بين المألوف والمتكبر النصّي الذي يتضح بقوة الاستعارات الشعرية وتبدو الصورة اكتشافاً جديداً تعرف عليه الشاعر بمخفياته وإعلاناته لاحقاً، لذا دائماً ما تتضح نصوصه مخلقة للصور الشعرية المتجاور مع المفروض اليومي ومن يعطي للنص ما يستطيع عليه، ينثر في الفضاء مكونات هوية المحيط، ويلتقط الادهاش والترقب. 
وما يلفت هو عنونة كتبه الشعرية وما تنطوي عليه من دلالة وعمق المعاني وانفتاح التخيّلات على ما هو غير متوقع. التخيّل مانح للشعر غرابات كثيرة، الحب، الصداقة، الهوس، البحث عن المفقود وانتظاره وما يومئ لذلك {النوافذ لم تغلق بعد" انتظاراً وترقباً لمن حملته السرديات واقترن مع شهرزاد التي هربت من نمطية مكانها وايقاعات الحكي الطويل والتردد نحو محيط يجب أن يغادر العزلة ويتكرس وسط سرديات من ابتكارات الانثى، سرديات جديدة وسيطها المذكر، الذي تعلم منذ بدئية السردية الاولى، بأن المذكر سريع الالتقاط ويشحن ما يفوز به عندما غادرت شهرزاد عزلتها. 
حالمة مثل الآخر، تريد كسر نمطية الليالي اللاحقة، وبما أنها ابتكرت آليات الليالي، يجب أن تحوز وسيلتها المبتكرة وتتباهى بها، بعدما تجعل من الشعر سرداً شفاهياً، يزدهي بإيقاعات اللحظة البدئية. 
الكلام هو شعر اليومي مثلما قال هايدجر عن الشاعر تراكل "أتخيل الكلمة/ وهي تنشر فسائل المعجزات" وحتى في نصوصه الايقونية للحكي بياض أنثوي "رغم خطواتهن المتباطئة/ سيل من النساء/ بعفرن وجوههن بالدعاء}.
شهرزاد خالقة، تمظهرت خلائقها بالمماثل النوعي، الذي وحدته الشفرات السرية مع كل من التقطها وعرف ما كامن فيها: "لابد لي أن أغير اللغة السرية 
وأمارس لعبة باردة نحو القصيدة.
* كانت خارج نافذتنا 
لا تؤنس وحشتها العصافير
شجرة ملعونة في أقصى احتمال المحنة"
* عادة ما انقش النوم على أسرة الغياب،
بالقبلة السريعة 
أخبئ قبلة أخرى 
تحت معطف الوقت// ص 79/80
ثنائية التواجد والغياب، أسطورة الانبعاث والاندثار، التماعات مضيئة في نصوص حبيب السامر الكامنة في المفردة الملحقة بسياق نافر. وتستجيب لفضح السياق الذي ارتضى شعرية الغامض من الدلالات الكامنة في نسق تحضن في مكامن السرد الشهرزادي. وأضاع خرائط الاهتداء وسيادة الغربة، الضياع، التيه. اتساع المتاهة لذا ظلت الخرائط بقوتها المجازية:
{بوصلة فقدت إبرتها 
تضيع الخرائط تحت أقدامنا،
تنهض في الصباح...
كالغرباء}.
الأماكن مجهولة، ما تريده غير متحقق، الذكورات وسط التيه. ولا أحد من ورثتها قادر على الوصول اليها. الغرباء فقط هم الذين يهتدون اليها مع لوثهم. لكن الشاعر حبيب السامر لا يومئ للملوث للحضور والاستماع لحكي شهرزاد إلّا بعد أن يغتسل بالنهر، أو المطر، او قطرات الفحولة. حتى تبلور الماء بؤرة متجوهرة. 
وكان السامر يحوز الماء في يومياته وأحلامه وأفراحه. والأنهار أكثر ملفوظات المألوف التماعاً في نصوص السامر، فما دامت شهرزاد غادرت عزلتها، إذن هي تريد لا بل تحلم بالماء التي لعبت به وطافت عليه. 
وصار كلاهما حبلاً لعبت به والتف عليها وسماً للجسد الأنثوي:
{وأنت تهبط نحو الماء، 
تحلم بالأشرعة 
اهبط ثانية 
سيلامس قدميك الماء،
تحسس برودته،
لا تثق به كثيراً 
أنت في قبو معتم 
المياه ضحلة/ لا إغواء حتى 
الآن/ ستدرك سشاعة 
الأفق في الخارج..
نحن جلاسك، لا تغيب}.
الماء أعمق رموز تجربة السامر الشعرية، وهو منفتح، فياض دلالياً على الرغم من شيوعه، لأنه متجوهر في مثل هذه التجربة، هو دليل من يحلم بفردوس الانقاذ، قائد، ماهر، نابض في هذه التجربة {بابيون} الشعرية المثيرة للاهتمام. وكأنه –الماء- باق مثلما رآه الشاعر أول مرة بعد انحداره من آبسو الإله أنكي، ولم تستطع الحياة فك الاشتباك معه، لذا ازدانت برطوبته وازدهت بالبلل المختبئ، الانهار والبحار والغيوم وما يتساقط من ماء روي هي المانحة ديمومة حتى الأبد خاضعة لسيرورة لا تتفكك، لأنها تمثل جزءًا حيوياً من الكينونة.
هذا الانضباط المتوفر في العلاقات النصيّة، وأنساق بنيوية متبلورة بوضوح، منحت نصوص السامر الشعرية تكرساً مع تماثل دلالي أو تضاد لا يشتت الطاقة.
التفاعل النصي وتحققات المعنى الذي يتصاعد عبر التتالي المعني بثنائية الخصوبة والتماع عناصرها، وتبيان ضغط الرماد والموات التي تلمح لنهايات منذرة ومعطلة، إلا أن الشعر ينفلت ولا تتحكم به روغانات المعنى وتبلور الكثافة الدلالية.
{صخب} نص شعري لا يشبه غيره من النصوص الشعرية لأن الغرائبية واللامعقول شكلا حضور المنفرد والمتميز الناقل لرسالة نصيّة، تعلن عن استمرارية الخراب والاحباط والتهدم، لأن اليومي لم يعد مثلما تمظهر في الحلم، بل تماثل مع خرابات {هل تبحث عن هيكل وسط تلك الجدران} التي لا تفضي الى شيء البتة وربما خيوط العناكب تلك على خطى وأنت تتذكر وصيته قبل معانقة الشبح الكوني {كيف لك أن تتخطى تلك القضبان}.
للسرد الشفاف طاقة فاعلة في بناء الشعرية المكتظة باليومي المعروف، حتى تتضح تصاوير ملتقطة بهية وكأن الحساسية الطافية في الصور هي ممتلكات المتخيّل والذاكرة الفياضة.
{على اللبلاب/ أرجوحة العصافير/ والماء المسفوح على الحصى/ يندلق سابحاً/ في ممرات البساتين/ الأفياء منتشرة/ مثل بقع رسام ماهر/ تترك أوراق الأشجار ظلالها/ فتندثر الأرض المعشبة/ ويظل اللبلاب سابحاً في الفضاء/ العصافير تهتز مع بندول حركته/ قلادة/ الريح/ تسحب دقائقه/ ليس ارتباكاً بل تسامياً باللبلاب وهو يزين دقائق المعاين، محتشداً بالسمو والسعادة والابتهاج".