فوزي كريم.. شاعر الحداثة المضادة

ثقافة 2021/05/27
...

  محمد تركي النصار 
 
 أستعيد الآن كيف بدأ اهتمامنا نحن الشعراء الشباب في بداية الثمانينيات بالشعراء الستينيين الذين غادروا البلد أواخر العقد السبعيني -فاضل العزاوي، صادق الصائغ، جليل حيدر، صلاح فائق، وقبلهم سركون بولص الذي ترك العراق الى لبنان ثم الى الولايات المتحدة اواخر الستينيات، وفوزي كريم الذي نجح في الهروب الى بيروت حيث عاش مرحلة التسكع والرفض والكتابة (الثورية) متوجة بنشر ديوانه الثاني (أرفع يدي احتجاجا) متذكرا كيف كنا نردد في تلك السنوات قصيدته المشهورة في جلساتنا الخاصة بنادي اتحاد الادباء:
كل شراع لم يعد إليك يا مخافر الحدود
لا باحثا سدى، عن المعنى
ولكن هربا من المعاني السود
فهو شراعي.
كانت المعاني التي تحدث عنها فوزي في القصيدة هي ما يشدنا أكثر، لكنني شخصيا كنت أتوقف عند بناء شعري يختلف عن أنموذج السياب والبياتي وسعدي يوسف وعدد كبير من مجايلي فوزي الستينيين.
في هذا النص بناء شعري مغاير ينطوي على قوة ابتكار وتمرد ضد ذاكرة ايقاعية سيابية طغت على العديد من نصوص تلك المرحلة وامتدت الى سنوات بعدها.
من هذا النص الملفت بدأ تركيزي على تجربة الشاعر فوزي كريم، اذ لاحظت أن ثمة وعيا نقديا ذائبا في روح نصه الذي بدأ في ديوانه الأول (حيث تبدأ الأشياء) غنائيا لينتقل تدريجيا الى البناء الدرامي بحسب توصيفات نقدية لتبدأ القصيدة مرحلة السيرة الشعرية المحكمة بناء وبلاغة وصورا ومضامين فيها هندسة روح أكثر وعيا وثقافة.
ومن استعراض كل أعمال فوزي كريم الشعرية والنقدية أرى انه أسس لمنظومة يمكنني أن أصفها بأنها تطور عقلاني ومحسوب لتجربة الرواد، فالشاعر أظهر منذ بواكير أعماله اهتماما برصد الظواهر الثقافية وتداخلاتها السياسية والأدبية، لكنه لم يمل الى نزعات التجريب والتغريب والانفلات الشكلي وربما ساعده في ذلك وعي متوازن وعلاقات منضبطة ليس على صعيد كتابة النص الشعري أو النقدي فقط بل في اختياره لنوع من استقلالية التفكير والابتعاد عن معارك الايديولوجيا وانحيازات اليمين واليسار بكل حروبهما وخسائرهما وضحاياهما خلال العقود التي تلت جيل الرواد.
وبالرغم من توقيعه لبيان جماعة مجلة شعر 69 وما انطوى عليه ذلك البيان من طروحات جدلية بقي فوزي محافظا على بصمته المميزة التي تعمَّقت في كتبه: تهافت الستينيين، العودة الى كاردينيا وثياب الامبراطور.
فوزي كريم كما أراه شاعر حداثة صنعها بوعي نقدي مضاد لقداسة الشكل ومنحاز لروح فيها تواشج وغنى بين الموسيقى والرسم والشعر وهذا الثالوث أسهم في ضبط مغامرته الأدبية لتربح القارئ المتحرر من عقد الايديولوجيا والقفزات الحادة.