فوزي كريم في بعض ما عرفته به

ثقافة 2021/05/27
...

طالب عبد العزيز 
تكمن فرادةُ الشاعر فوزي كريم في أمرين هما استقلاليته المدْرِكة، ومعرفته الواسعة. الصفتان اللتان وهبتا شخصيته الكثير من المهابة والوقار، ووسمتا صورته حضوراً استثنائيا، على الرغم مما كان يُظهره من بساطة في هيئته، بعد أن تخلّى عن معطفه المطري الطويل، الذي بقي يرتديه حتى في صيف بغداد، بحسب ما ترويه فاطمة المحسن في (الرحلة الناقصة). ففي بواكير حياته كان فوزي كريم ليس الذي عرفناه ثانيةً، إذ بدأنا نتلمس الحكمة والدراية والفرادة في حديثه، وفي ما نقرأ له في مصنفاته الكثيرة، التي توزعت بين الشعر والرسم والنقد والموسيقى. 
  على خلاف القاعدة الثقافية العراقية، التي فلقت السياسةُ حجارتَها نصفين، أخذ الشيوعيون نصفها الأكبر، واحتفظ البعثيون بنصفها الصغير، فقد نأى فوزي عنها تماما، وسوى من قراءات فلسفية وجودية مبكرة، كان دافعها الاول الظهور المغاير في المقهى (المعقدين) واستعراض النفس، الذي تحول الى الكياسة، بعد مغادرته بغداد الى بيروت في العام 1969 لم تنل السياسة من تجربته شيئاً، إنما ظلَّ معماراً شعرياً وفنياً وثقافياً قائما بذاته، يستقطب الجميع ويستثير البعض، فهو صوت لا يتشاكل إلّا مع قلة قليلة، بينهم نجيب المانع، الذي قال في موته (أترددُ خلف السور/ أطلُّ على الرجل المأسور/ بجمالك أيتها البستان/ الرجل وحيد مثل الوتر/ ومثل الوتر يخيط من الالحان كفنا/ وكمن يتماثل لشفاءٍ/ يرخي أزراراً/ ثم يحلُّ إزاراً ..) 
  في مربد الشعر، بالبصرة، شتاء 2005 التقيت فوزي كريم أول مرة، وبهدوء الذين أطالوا المُكث بلندن الباردة كان يتحدث بنبرة خافتة، أقرب للهمس، عرفت أنه يعاني من أزمة قلبية. وقبل مغادرته البصرة الى الكويت، التي ستقله الطائرةُ منها الى لندن، زارني في مبنى الجريدة (المنارة) حيث كنت أعمل، تحدثنا عن الانتماء والاستقلالية، ومصادر التمويل في الصحافة، كنّا، آنذاك، نعاني من وجودنا في الجريدة التي يملكها (خلف المنشدي) الشخصية الوطنية، بوصفه ممولا من قبل الكويتيين فقال فوزي: «ليس المعوَّل في القضية هنا مصدر المال، إنما المعوَّل على ما تكتبه أنت). 
  في مقطع تسجيلي مصوّر فوجئت بفوزي كريم وهو يتحدث عن ملحمة جلجامش، بوصفها الأثر الأخلد في ثقافتنا، ولاحظت أسفه لعدم وجود الكثير من المعلومات عنها في المواقع العربية، في حين قال بوجود أكثر من ثمانمئة موقع بالإنجليزية، تتسع وتفيض بمعلومات لا حصر لها عنها. فوزي العارف بفنون الشعر والرسم والموسيقى هو غير ذاك الذي رأيته ببيت الشاعر سلام الناصر (شقيق يوسف الناصر الفنان، والرسام المغترب معه بلندن) يوم تناولنا (سمك صبور) التي مدت على الارض، أثارني قلق فوزي من جلستنا تلك، والصعوبة البالغة التي عاناها، فكان يطوي بجسده على المائدة، يمدُّ ساقاً ويؤخر أخرى، مع حبّه الواضح للسمك، أذكرُ أنه طلب من سلام إعادة غسل وتعقيم الخضار بالملح والمطهرات، لعله أراد استعادة جزء من حياته العراقية تلك، التي ظلَّ يفتقدها بلندن، مع محاولاته اليائسة في الاحتفاظ بصحته، يوم كان يخفي تراجعها.