تجربة قرية

الصفحة الاخيرة 2021/05/29
...

جواد علي كسار
كان من الصعب أن أصدّق الواقعة لولا أنني تابعتها وشاهدتها عن كثب، قرية على النهر محرومة من الكهرباء، بل هي في بلد تُعدّ الكهرباء فيه والماء النقي الصالح للشرب، من الأماني حتى اللحظة.
بدلاً من الاستسلام والتبرّم وبثّ الشكاوى من شاشات الفضائيات المتربّصة ـ وما أكثرهاـ انطلقت همّة إحدى الأسر بمبادرة، ما لبثت أن تحوّلت إلى مشروع شبه متكامل، فهناك حوض صغير لتربية الأسماك وإلى جواره معمل صغير للمربيات والعصائر بأنواعها كافة، مما تنبته أرض القرية وبساتينها، بحيث لا تضيع ثمار بساتينها هدراً كأن تُتلف وتُرمى في النفايات، أو تُباع بأثمان بخسة تجعل الفلاح يعضّ أصابع الندم على زراعته لأرضه!.
معمل ألبان متواضع وبأدوات بسيطة وكُلف زهيدة، لكنه فاعل في استيعاب الحليب الذي تنتجه حيوانات القرية، ويتحوّل إلى أجبان وألبان وزبدة وقشطة، تفي بحاجات الناس الاستهلاكية لهذا الصنف الضروري من الغذاء.
إلى جوار ذلك كله يشخص في المكان مرعى صغير للخراف والماعز، إلى جنبه حلبة صغيرة للدواجن، لكي يتوفر للقرية عبر هذه التركيبة أبرز مقوّمات ما يُطلق عليه باقتصاد الكفاف في القرية، وهو اقتصاد محلي في المواد الخام والتدوير وإعادة الإنتاج.
كان يُقال لنا في أيام الدراسة المتوسطة، ان إمكانيات مدن مثل كربلاء وديالى والعمارة، كلّ واحدة منها تكفي لتوفير متطلبات العراق الغذائية، وسدّ حاجات أهله للفواكه والخضار واللحوم والألبان والعصائر والمربيات، تماماً كما علمونا في المدارس ان السودان وحده، كافٍ أن يتحوّل إلى سلّة غذاء للعالم العربي برمّته، بيدَ أن المؤسف حقاً، أنه وبعد مضي عقود على هذه الأماني، لم نجد أن مدن العراق قد تحوّلت إلى مستوى سداد حاجة أهله إلى الطعام، ولا السودان صار سلّة غذاء للعالم العربي، ووقائع الحياة اليومية في أسواق العراق والعالم العربي، خير شاهد على ما نقول!.
أسباب ذلك كثيرة؛ نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية أيضاً، منها الكسل، وغياب التدبير، وشيوع ثقافة اليأس والإحباط، وانعدام المبادرة والإبداع، وثقافة التواكل ورمي المسؤولية على الآخرين، والميل الجانح للتبرّم والشكوى من كلّ شيء، والانغماس بمشاعر الملالة والضجر؛ وربما كان السبب الأهمّ من هذه جميعاً، هو ربط عجلة المعيشة بتفصيلاتها جميعاً بالدولة، حتى كادت أن تكون بديلاً للإنسان نفسه!.