الهامش وتقويض المركز

ثقافة 2021/05/30
...

 مالك مسلماوي
تبدو مقولة العنوان مغالطة مقصودة، فالتهميش اقصاء ومحو بفعل حركة المركز الطاردة التي من شأنها نفي الهامش او إزاحته.. لكنني سلمت بضرورة الهامش المنطقية.. فكل مركز لا يكون إلا بوجود هامشه وإلا لما كان مركزا.. وضربت مثلا لذلك البيضة الحية، إذ البيضة حاصل جمع بين صفارها (مركزها) وبياضها (هامشها)، فلا بيضة من دون أحدهما.. وفي الفكر، 
بعد مراحل سيادة المركز في عصر الحداثة وما قبلها ارتكزت مرحلة ما بعد الحداثة على تفتيت المراكز القائمة على السرديات التقليدية والنزول الى الهامش فاختفت الى حد ما تلك الجدلية التي فرضت نفسها على الحياة الاجتماعية بأنشطتها المختلفة ومنها الحركة الثقافية اختفاء نظريا في الغالب لكن الواقع في البلدان النامية -بخاصة- ما زال أسيرا لثوابت راسخة لا يمكن زحزحتها
بسهولة.
مناسبة هذا الحديث الذي يبدو مكررا ومعروفا (أعني جدلية المركز والهامش) ما كتبته الشاعرة المغتربة فليحة حسن في مقال (المسكوت عنه في المشهد الشعري العراقي) المنشور قبل مدة ليست بالقصيرة واطلعت عليه مؤخرا .
لقد ذكرت السيدة فليحة حسن عددا من اسماء شعراء عراقيين وبحثت في تجاربهم الشعرية والخصائص الاسلوبية والدلالية على عجالة من خلال الاستشهاد بمقاطع من نصوصهم الشعرية «فلكل واحد من هذه الاسماء بصمته»، ومن هؤلاء الشعراء: مهدي القريشي/ علي خصباك/ رياض الغريب/ عمار المسعودي/ سالم سالم/ منصور الريكان/ نضال القاضي/ مالك مسلماوي/ حبيب السامر/ عبد الحسين الحيدري/ امير ناصر/ سعد صاحب الشامي/ حسين ناصر/ حسين الهاشمي.. جاء في معرض حديث كاتبة المقال: «فجل هذه الاسماء تكتب من زمن ليس بالقريب غير انها لم تسلط عليها أضواء الشهرة بل ظل غالبية الشعراء هنا يقفون بعيدا في دائرة التهميش لأسباب ليس مجال البحث فيها سانحا هنا..». 
 لقد ارادت الكاتبة في دعوتها -ذات الاهمية الواضحة- رصد المشهد الثقافي بعامة بلفت النظر الى المسكوت عنه والمنسي او الضائع في هذا الخضم الهائل من النتاج الشعري في العراق حتى اصبح عدد الشعراء يتجاوز عدد القراء! وهذا المسكوت عنه -كما ترى- فيه مما حقه ان يكون في دائرة الضوء.. تقول في البدء: «المجتزئ لأسماء من دون غيرها من مشهد شعري مهم مثل المشهد العراقي، كالقابض على حفنة جمر يرى فيها الدفء كله والحريق
كله».
 وأنا بصدد كشف المسكوت عنه في المقال، أقول أولا: كل انسان يبحث عن الشهرة، وهذا من حق الجميع لكن هناك من يستحقها وهناك من يستجديها او يدفع من أجلها ثمنا باهظا، وهذا الثمن مختلف ونسبي وقد يصل الى التفريط بماء الوجه!، والحقيقة المرة هو في أن يتوسط البعض دائرة الضوء لمؤهلات ليس من بينها السبق الإبداعي!، والحقيقة الأخرى هي أن المبدع الحقيقي يكون اهتمامه الأول السمو بمنجزه لا توسعة دائرة شهرته.. وأن الإبداع الراقي يحتاج الى نقد راق حتما، والمسؤولية ملقاة على هذا النوع من النقد وليس نقد التكسب والعلاقات الاجتماعية والمجاملات الذي هو في واقع الأمر ليس نقدا بالمعنى الدقيق، وإنما نقد (الكليشهات) الجاهزة والمدائح المجانية من حيث القيمة الابداعية ومدفوعة الثمن من حيث المنافع المتبادلة..
 لقد قال لي أحد الاصدقاء مرة: أنت لا تعرف تسوق نفسك.. فلم ترق لي النصيحة وان كان فيها وجهة صحيحة، لكني لست بائعا متجولا حتى أروج لبضاعتي بكل الوسائل من دون تحفظ، يهمني ان يصل صوتي الى من يصغي.. الى من همه الابداع أولا وأخيرا، لا الى من يفتح اذنيه لمن في دائرة علاقاته الاجتماعية، ومن يتخذ من غيره سلما للوصول وحسب.. أنا يا صديقي أبعث برسالتي الجمالية بهدوء وتأنّ.. وأريد أن اعرف هل حققت شيئا او هل تركت بصمة في سجل
الابداع؟. 
لا أرغب بالحديث عن نفسي ولكن ورود اسمي في المقال حفزني لذلك، ولأني أمارس النقد وقد تصديت لكثير من النتاجات الادبية، فلم أركز الاهتمام على الاسم وانما على النص، وقد كتبت عن نتاجات لا اعرف اصحابها. ومنهم من أعرفهم ومن بينهم اصدقاء.. كما اني لم أأخذ بنظر الاعتبار طلب البعض صراحة في إبداء رأيي في ما انجز، والبعض الآخر هجاني واتهمني بشتى التهم لأني لم أقل شيئا بحقه.. نحن أمة تجيد الهجاء مثلما تجيد المديح، وتمارس التهميش على أعلى المستويات، في حين الإبداع بريء من كل ذلك.
 
جريدة الحقيقة /العدد (1944) الاثنين /26 – 4 - 2021