الاعتداء على الكتابة

ثقافة 2021/05/31
...

  حسن السلمان
 
في كتاب {صحبة لصوص النار/ حوارات مع كتّاب عالميين} لـ للكاتبة والصحافية اللبنانية جمانة حداد، يقول الكاتب النمساوي بيتر هاندكه في معرض حديثه عن الذين يشوهون الكتابة الإبداعية: {كل من يجرح الكتابة يجرحني شخصياً، وتنتابني الرغبة في طرده من بيتي ومن مملكتي. ثمة عدد هائل من الكتاب المزعومين الذين يعتدون على الكتابة. كتّاب مُزَورون، مُدعون، مُنتِهكون}. إن هذا الحديث العمومي لـ هاندكه يتطلب منا الخوض في بعض التفاصيل طالما أن عجلة الإدعاء والتزوير والانتهاك والتشويه دائرة وتشكل ظاهرة عالمية تخصنا نحن ايضاً. فهناك أكثر من صورة للاعتداء على الكتابة والإساءة إليها. فبعض الكتاب، وعلى الرغم من اندثار نظرية {الفن للفن} وغيرها من النظريات التي تعزل النص عن سياقه الخارجي/ الاجتماعي كالشكلانية والشيئية والتي تنظر إلى النص الإبداعي بوصفه مجالاً تخييلياً محضاً، مازال يصرح بأنه غير معني بما يقع خارج النص وبأنه يكتب لنفسه عندما يوجه له السؤال التقليدي العتيد: لماذا تكتب!، مع أنه يصدر الكتاب تلو الآخر ومن أرقى دور النشر ويحرق الدنيا في الترويج لكتبه. وفي رأينا أن هذا الإدعاء ماهو في الحقيقة إلا معاناة من عدم الثقة بالنفس وتهرب من مسؤولية مايكتب عند تتم مساءلته نقدياً، سواء على المستوى الفني، أم على المستوى الثيمي، وبذلك يصبح خارج دائرة {الالتزام} التي تتطلب وبشكل حتمي أن يكون هناك هدف وراء مايُنضّد من حروف تحت يافطة الأدب. فالأدب، أو الكتابة الإبداعية بشكل عام، وبعيداً عن رؤى النظريات الفلسفية ذات الطابع الجمالي الصرف، يجب أن يكون ذا موقف وهدف مؤطر برؤية إنسانية، ومشاركة سوسيوثقافية فاعلة. ومن صور الاعتداء على الكتابة، تلك الكتابات الموزعة بين على الرواية والقصة والشعر التي تتسم بالبلادة والسذاجة وضيق الأفق التي وجدت لها موطأ قدم على الساحة الأدبية سواء في النشر الذي أصبح متاحاً ورقياً بشكل اعتباطي لأسباب عديدة منها مايتعلق ببعض محرري الصفحات الثقافية غير المؤهلين فنياً وثقافياً، ومنها مايتعلق بتحرير صفحة ثقافية تتلاءم وتوجهات وميول الصحيفة الايديولوجية بغض النظر عن مستوى المواد، أم الكترونياً حيث الحرية المطلقة في النشر، أو المشاركة في الانشطة الثقافية من ندوات ومهرجانات وجلسات بغفلة من العيون النقدية الساهرة الرصينة، وبـ {تسهيلات} مجاملاتية/ إخوانية قائمة على المنفعة المتبادلة، وتلميعها، أي الكتابات الهابطة، بشراء ذمم بعض الأقلام النقدية المأجورة. بل إن بعض هذه الكتابات الهزيلة أفكاراً، والركيكة لغة، والهابطة قيمة، استطاعت أن تنال جوائز معتبرة وتتصدر قائمة الاهتمام الإبداعي لاعتبارات تفتقر الى النزاهة والمهنية والحياد من قبل الجهات الراعية لتلك الجوائز!!. وتعد دور النشر واحدة من صور الاعتداء السافرة على الكتابة، إذ غابت معايير وضوابط النشر وشروط الجودة الفنية والفكرية وأصبح المكسب المادي هو الأهم، إذ تحولت أغلبية دور النشر إلى دكاكين تجارية وهو مافتح المجال واسعاً أمام {الموهومين} لإصدار {أوهامهم} بطبعات أنيقة تتربع على رفوف المكتبات الشهيرة وتشارك في أهم معارض الكتب الدولية!. وأغلب هؤلاء {الموهومين} لايهمه شيء سوى اكتساب الوجاهة الاجتماعية الزائفة عبر صفة روائي أو قاص أو شاعر أو ناقد تتقدم اسمه، والغريب أن الكثير من هؤلاء يعاني من {إسهال كتابي} عبر إصداره لأكثر من كتاب في العام الواحد من دون تروٍ أو مراجعة، وهذا يعني بشكل قاطع استسهالهم للكتابة، إذ يعد الاستسهال صورة واضحة للاعتداء على الكتابة. الكتابة "لحظة صدق" وشعور عالٍ بالمسؤولية، وقبل كل هذا وذاك، الكتابة احترام الآخر/ المتلقي، ومشاركته الكشف عن "المعنى" المستتر خلف الستائر البلاغية للنص.