الرحم الخصبة.. وأورام مابعد الحداثة

ثقافة 2021/06/01
...

  د.نصير جابر                     
 
من أصعب القرارات أو الخيارات المصيرية الحاسمة التي تواجه المرأة  التي لم تنجب بعد - أو حتى التي أنجبت- هو الاضطرار إلى عملية قلع الرحم، فمعها يكون حلم الأمومة الأثير والجميل والفطري قد ولى  إلى الأبد، والعملية للأسف الشديد ليست نادرة فهي تجرى كثيرا لأسباب مرضية مختلفة، وهناك طبعا احصائيات دقيقة لعدد النساء اللواتي يخضعن لهذه العملية كلّ سنة وفي كل بلد من بلدان العالم يمكن الرجوع إليها فبعدها يمكن أن تسمع المرأة أبشع مايمكن أن تسمعه في حياتها وهو وصفها بـ (الأرض البور).
و(الرحم) لها مكانة عظيمة في الفكر البشري وثقافة المجتمعات طوال مراحل تكوين وتشكيل هذا الفكر فهي - أي الرحم - التي أنتجت البشرية جمعاء.. نعم هكذا بكلّ بساطة ويسر وسهولة: هي مصنع الحياة الغامض الذي تكونت داخله عملية الخلق المعقدة والمثيرة والأزلية.
 ومنها.. وعنها.. ولها تنسب الكثير من الكنايات والمجازات والقصص التي تلمح وتصرح لدلالاتها العميقة وعلاقاتها بكل فعل انساني بوصفها المنشأ لهذا الكائن الاشكالي: الانسان وهي في اللغة بؤرة لتوليد مفردات كثيرة مهمة تدور أغلبها في حيز اللغة الاجتماعي. 
ويكفي أن نذكر أن مصطلح (هستريا) مشتق من الكلمة اليونانية (هستيرية) التي تعني (الرحم) لنعرف إلى أي مدى عميق قد تغلغلت هذه المفردة في مفاصل الحياة. 
وهي أولا وأخيرا جزء أصيل من كينونة المرأة وسبب مهم من أسباب شعورها العارم بأنوثتها وسطوتها، فمنها يبدأ الطريق (لربط) الرجل لجعله يشعر بثقل المسؤولية حينما تنجح المرأة في الانجاب منه، فلا يتركها أو يهجرها بحسب المخيال الشعبي الذي يرى في (الخلفة = الانجاب) الحل الأنجع والأكيد لديمومة الزواج ولو ظاهريا على الأقل.. والحقيقة أن الأمر أبعد من هذا التصور الشعبي الساذج بكثير فحتى لو انجبت المرأة فهناك قيد آخر غريب على (نوعية) هذا الانجاب، فالرجل يريد (ذكورا) ولا يمكن أن يقبل بامرأة تنجب الاناث فقط والقصص والشواهد التاريخية التي تثبت ذلك أشهر من أن تذكر فهي معروفة متداولة 
وشهيرة. 
وعلى الرغم من أنني لا أمتلك احصائيات دقيقة ولكني أجزم أن أكثر من نصف الزيجات الثانية في ريف العراق مثلا تأتي بحثا عن الذكور لارتباط وجودهم –أي الذكور- بأوهام القوة والهيبة الاجتماعية والوجاهة، وكذلك للحاجة الملحة لهم للعمل المتعب والشاق في الزراعة. 
على الرغم من أن دور المرأة لايختلف عن دور الرجل أبدا في هذا العمل، ولكن هي أوهام كما قلت لها ارتباط بالعقل البدوي القار الذي يبدو أنه لا خلاص منه ومن ترسباته الثقيلة في قاع المنظومة الفكرية والاجتماعية العربية. 
 إنّ الحمل من أصعب المهمات وأكثرها مشقة وهذا مما لاشك ولا ريب فيه؛ لذا عليه أن يقابل بكثير من الاحترام والتقدير المعنوي والمادي، وأن يراعى في كل قانون يسنّ وكل مطلب يعرض مع الالتفات وبشدة إلى أن المرأة ليست مجرد مصنع (للتفريخ)، فلها كامل الحقّ في التوقف عن اداء هذه المهمة العسيرة متى ما تعارض الأمر مع صحتها أو مصلحتها. 
وقد انتبهت الحركات النسوية إلى هذه الجزئية المهمة في حياة المرأة فعالجتها بقراءة واعية مستفيضة مرتبطة براهن العصر والواقع الذي انبثقت منه معطيات هذا الطرح النسوي، ولعل ما وجدناه في مظهر احتفائي ملفت للنظر دليلا على ذلك، ففي الاتحاد السوفيتي السابق كان هناك (وسام) اسمه (بطل الاتحاد السوفيتي) يمنح لأشخاص أو جماعات قدموا خدمات جليلة للمجتمع والدولة السوفيتية.. مُنح 12.775مرة.أولهاعام 1939وآخرهاعام 1991.
هذا الوسام منح ذات مرة لسيدة أنجبت (9) أبناء؛ لذا هي بطلة عندهم تستحق التكريم والاحتفاء لا التقريع واللوم، فقد تحولت من امرأة عادية إلى بطلة لأنها أعطت للحياة هذا العدد من المشاريع التي ستعمر وتبني وتبتكر. 
وما كان هذا التكريم ليكون لولا أن (النسوية) هناك ارتبطت مع فكر انساني خالص حاول ويحاول أن يكون مع المرأة في نضالها من أجل حقوقها المشروعة.