كهف إفلاطون

ثقافة 2021/06/02
...

د. أحمد الزبيدي 
 
على الرغم من قصر المدة الزمنية للولادة الشعرية العربية الجاهلية، إلا أنها ولادة بدأت كبيرة وقائدة يحذو حذوها الشاعر العربي حتى يومنا هذا؛ فما المحاولات التجديدية إلا محاولات للتفرد عن أنساقها، والمغايرة في أسلوبها.. وكأنها الولادة الثابتة وسواها الولادة المتحركة الساعية إلى رسم هوية شعرية تمتلك ملامح 
خاصة بها. 
وبات (العمود الشعري) معيارًا يقاس به ميل الشاعر واعتداله. 
وكأن هذه  الثوابت الشعرية  أصبحت هي (الحقيقة الشعرية)، وإنها الخصائص التي فضل بها البحتري نفسه على أستاذه أبي تمام: (كان أبو تمام أغوص على المعاني مني، وأنا أقوم بعمود الشعر منه)، لأنه احترم أركان العمود: شرف المعنى وصحته، واستقامة اللفظ وجزالته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية. 
ولاشك في أن هذه الثوابت العمودية تعكس الخصائص العامة للقوانين الشعرية.. بمعنى هي قوانين الشعر العربي، التي انتظمت في ظل سلطة دينية لها (الفضل) الكبير في ترسيخ أركانه واستقرارها، ومن ثم فإن المحاولات الهادفة إلى التمرد عليها ستواجه في البدء بفتوى (البدعة) التي تذكرنا بـ (الضلالة). 
واعتقد أن اشكالية التجديد الشعري لا تنحصر في المستوى الجمالي وحده ولا في الفضاء الثقافي المحيط بالظاهرة الجمالية فحسب، بل تتعلق الاشكالية ببعد فلسفي يتمثل في ماهية الحقيقة التي تتبلور من خلال ثقافة (الإجماع) المتأتية من الثقافة الدينية: اجماع على الخليفة، اجماع على (الإله)، اجماع على 
(الأعلم). 
ومن هنا فإن (السادة) هم مَنْ يفرضون ( الحقيقة).. وحين دأبت الحداثة إلى خلق وجوه متعددة لها بمرجعية عقلية وباحترام لفردية الإنسان وتفكيك قيوده الموروثة والثابتة، فإنها بقيت تُقاس في ضوء الثابت العمودي في مجتمعاتنا والذي يمتلك ثروة هائلة من الأدلة (النقلية) و (العقلية) على أحقية حكمه وقداسته.. يقول منتاني: (أية حقيقة هذه التي تحدها الجبال والتي تعد كذبًا في نظر من يعيش وراء الجبال). 
وعلى ذكر الجبال لا أدري إن سعى المتمرد إلى الخروج عن (كهف الحقيقة العربية)، فهل سيضمن سلامة رقبته من (التكفير) وهو أضعف (التحذير)؟.