نحن نعرف ما سيأتي حيث لا أكون تكون السعادة

ثقافة 2021/06/03
...

  هدية حسين
 
تعد الكاتبة كريستا فولف (1929 ـ 2011) من أهم كتّاب ألمانيا، عضوة أكاديمية الفنون في ألمانية الشرقية، والغربية، والأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون والأكاديمية الحرة للفنون، حاصلة على عدة جوائز مرموقة، ومن بين أهم أعمالها رواية (نحن نعرف ما سيأتي) التي نحن بصددها، والتي استندت فيها الى بعض رسائل الكاتب المسرحي هاينريش فون كلايست (1777ـ 1811) والشاعرة كارولينا فون جوندروده، لكنها تبني روايتها على لقاء افترضته بين الاثنين لم يتم على أرض الواقع، يحيلنا لسؤال: هل يحق للروائي أن يفعل ذلك على حساب التاريخ الشخصي والوقائع التي رافقته؟، سنترك الإجابة لأصحاب الاختصاص وللقراء ونمضي الى ذلك اللقاء وما رافقه من مشاعر وملابسات.
الصفحات الأولى من الرواية كُتبت بلغة شاعرية تشد القارئ وتأخذه الى الأحاسيس الدفينة للنفس البشرية التي نسيها في خضم صخب الحياة، قبل ذلك اللقاء الذي سيتم في حفل كبير ضم شخصيات المجتمع في ذلك الوقت، سندخل غابة من مشاعر مضطربة مع كاتب آثر العزلة بسبب حالته النفسية لأسباب سنتعرف عليها في هذه الرواية بعضها مأخوذ مما مر به الكاتب وأوصله الى الانتحار، وقصة حب سنكتشف في تفاصيلها شكل العالم الذي عاش فيه الاثنان (الكاتب المسرحي والشاعرة) بكل تناقضاته الاجتماعية والسياسية، وسندخل تلك المنطقة المحصنة لأعماق كلايست وأزمته (حيث لا أكون تكون السعادة) وأزمة جوندروده المحصورة في الدائرة الضيقة من محيطها وهي غير مكترثة بزوال كل شيء، بما هو مرئي وغير مرئي.
الرواية تلتقط أدق المشاعر الجوانية في العلاقات الإنسانية، وتدق مثل نبض القلب على قلب القارئ كتبتها المؤلفة كريستا فولف بذائقة فنية وعمق نفسي شفاف ومتعة تخرج من روح الكلمات لتتحدث عن عاشقين جمعتهما المصادفة ليكملا بعضهما لأسباب نفسية تتطرق لها الرواية بناءً على الحوارات التي أدارتها المؤلفة بين الشخصيات من موقع خفي بما يخدم نصها ويعرّف القراء ببطليها، ومن خلال ذلك الحفل سنرجع الى ماضي كلايست ونعرف الكثير عن شخصيته، فهو رجل لا يحب الاختلاط، بينه وبين الحياة هوة سحيقة لم يستطع ردمها، لديه عيب في النطق يمنعه من تدفق الكلام لذا يلتزم الصمت كلما دعت الضرورة، أما الشاعرة جوندروده فهي شابة تعيش أزمتها وسط مجتمع ينظر إليها نظرة امرأة خرجت على الأعراف، لكنها تحاول قدر ما تستطيع أن تمثل العكس على الآخرين، كانت تشعر بميل نحو سافيني إلّا أنها لا تصرح له بذلك، وسيكون يوم الحفل مناسبة لتتجرأ وتخبر سافيني ما كانت تكنه له من مشاعر في الوقت الذي لم يعد الآن يحمل في نفسها شيئاً، قالت له بأنه لم يبذل مجهوداً لكي يفهمها بسبب الشائعات التي كانت تحيط بها والتي كانت تصورها على أنها امرأة لعوب، إلا أنها استطاعت أن تروض نفسها وتتجاهله بالإخلاص للكتابة، وهكذا أبدلته بفنّها لدرجة انغمست فيها بالكتابة ونسيت نفسها (لا أعرف لنفسي شيئاً أفضل، إنه من الغباء أن يترك المرء فناً صغيراً مثل فني يتحكم فيه الى هذا الدرجة لكني أحب هذا الخطأ، إن كان هذا خطأ، فإنه غالباً ما يعوّض عليَّ العالم كله) ص48.. ستدرك في ما بعد أن الكتابة لن تعوضها عن الحب الذي انبثق من ناحية أخرى غير ناحية سافيني، عندما تنمو مشاعرها باتجاه كلايست الذي حضر هذا الحفل. 
 إنها قصة حب مضطربة سنعيش فصولها، لكن الرواية تطرح أيضاً أموراً أخرى تتعلق بالحياة والفلسفة نلتقطها من الحوارات التي تدور بين الشخصيات بشأن الحد الفاصل بين الفلسفة والحياة، وبين الأفكار والأفعال، ويجد كلايست نفسه مشاركاً فها بما يسمح له مزاجه، ويبيح لنفسه أيضاً أن يترك المتحاورين ويقف عند النافذة للتعبير عن رفضه لبعض الأفكار، يرمي بصره الى الطبيعة من وراء النافذة لكنه لا يرى شيئاً، إنه مريض نفسي كما يقول طبيبه (فيديكيند) الذي حضر الحفل أيضاً.
يسترعي كلايست انتباه جوندروده فتتابعه بنظراتها من حين لآخر، ثم بعد حين يقتربان من بعضهما ويتحدثان ويخرجان مع الجميع الى الطبيعة قرب النهر وهناك تتاح للاثنين فرصة تبادل الأفكار في حوارات مطولة عامة وشخصية مرتبطة بنظرتهما للحياة وبشعورهما بالاغتراب عن المحيط الذي يعيشان فيه، هي تبدو أكثر جرأة منه فتفتح الأبواب المغلقة أمام النفس فيجد فيها ما ينقصه، وللمرة الأولى يجد كلايست نفسه يبوح بأشياء كثيرة، إنهما الآن منجذبان لبعضهما من دون تصريح معلن لكن إشارات جوندروده تبدو من دون مواربة وفيها دعوة للحب، يحل المساء عليهما فيسمعان عن بعد أصواتاً تنادي على كلايست، يشيران كل الى الآخر بالوداع لكنهما يتواعدان، هما وحدهما يعرفان ما سيأتي، عند هذا الحد تتوقف الرواية، ولم تتطرق الى ما حدث لكلايست بعد ما يقارب السبع سنوات، إذ إنه أطلق النار على نفسه في نوفمبر من العام
1811.