قصص قصيرة جدا

ثقافة 2021/06/03
...

 ابراهيم سبتي                                
 
صوت قريب جداً
 
الساعة.. نهار مضيء.. الشارع تتبعثر في فضائه نثار الكلمات الممطوطة.. صخب يتعالى من أروقة غاصت في دهاليز طويلة ضيقة تتفرع من الشارع.. الدهاليز أقبية بلون الظلمة، قيعان لا قرارة لها تحدها هوّات كالحفر العميقة تخرج منها الاصوات كهمهمات وحشرجات مخنوقة..  الدهاليز الطويلة تزدحم بالمارين المترنحين يحملون وجوها كالأقنعة.. أنوف طويلة حادة.. آذان متهدلة.. عيون لا تنسدل، مفتوحة.. رؤوس ضخمة ككرات الجليد.. أذرع طويلة كأنها تلامس الأرض وسيقان رفيعة عالية.. الدهاليز بلون الظلمة في حين كانت الساعة نهارا مضيئا.. غريبة غير واضحة الأصوات الخارجة من الهوات داخل الدهليز الطويل.. الرؤوس الضخمة والأذرع الطويلة تدخل الشارع المضيء كالنهار.. تدخل مترنحة كأنها خارجة من فوهة جحيم، ملأت الأرصفة وأطراف الشارع ووسطه دويا.. الفضاء المحقون بنثار الكلمات المتصاعدة كان صاخبا فانهالت الرؤوس بالتراشق بينها فصار صخبها دويا.. سمع صوت يتبطر ينسل من مذياع مركون في طرف الشارع:
ـ ادخلوا آمنين كل ثغر فاغر فاه.. فالوقت يداهمنا.
الرؤوس الضخمة لم تبال بما يزفره المذياع..
ـ ادخلوا كل حفرة.. في التنور.. في داخل صفيحة.. الى أقرب نهر..
في فم حوت ان وجد..
الدهاليز تلفظ كل أحشائها الى الشارع المزدحم بالسائرين.. 
المذياع يصيح مزمجرا راعدا.. سبع درجات على مقياس ريختر.. يا للهول لم يتبق أي شيء يقف على قائمتيه.. تحتاج المنطقة المنكوبة الى رافعات عملاقة.. الناس داخل شقوق الأرض.. تحت الصخور.. النهر ابتلع ماؤه وجف.. السفوح انحدرت وطمرت الوديان.. الفضاء تلون بلون الدم وماتت جميع الطيور على اغصان الاشجار المتكسرة وشوهد رجل عجوز منبطحا فوق عمود.. لا إثر لكائن يتحرك… انتهى الخبر.
اشرأبت الأعناق الطويلة إلى السماء.. توقفت السيقان العالية.. ران صمت قلق.. قلق حد الرعشة.. دهم الشارع غروب الترقب..
انطلق صوت المذياع معنفا:
ـ ريختر لم ينم الليلة.. في مكان آخر قريب.. كانت الأرض تشهد هزات مروعة..  مروعة حد الجنون.. ريختر.. خمس درجات.. سبع.. بل كله.. يا للهول..
توقف المذياع فجأة عندما هز دوي هائل الشارع المزدحم بالرؤوس الضخمة التي تستمع برهبة الى المذيع الذي تلاشى.. تحولت همهمات الواقفين الى صراخ وعويل، الرؤوس الضخمة تحركت كآلات مربوطة بخيوط، تنتقل من رصيف الشارع الى جوفه.. ترتطم ببعضها خائفة.. المذيع تلاشى تماما في حين ظل البعض ينتظر طلعته.. ينتظرون ما قد يخفف صدمتهم.. تلاشى تماما.. لا أثر له البتة.. تحركت الرؤوس بعشوائية مربكة.. لا أحد يبصر أمامه فلا نظر ولا شعور بألم الارتطام، هائمة الرؤوس في جوف الشارع تبحث عن ملاذ.
 انشق الشارع من منتصفه وأحدث فجوة هائلة.. فجوة كأنها باب جحيم ألقم بالأجساد المفزوعة، تعالى غبار الأمكنة مالئاً صفحة السماء.. الرؤوس التي هالها مشهد الفجوة، ظلت تنظر إلى مكان المذياع تترقب صوت المذيع الذي كان يصدح قبل دقائق.. تترقب وسط الغبار المختلط بالغروب.. في حين توارت الدهاليز المتفرعة من الشارع وتعالى غبار الأمكنة مختلطا بالظلمة الزاحفة ببطء. 
 
سيف
ارتفع السيف مُلتمعا في فضاء خائف.. كانت القبضة مصنوعة من قرن حيوان بري، وعندما هوى ساقطا على الرقبة المستسلمة في خنوع، طار السيف وبقيت اليد تمسك بالقبضة القرنية.. بحثوا عنه بين الوجوه المفزوعة المحتشدة أمام الرقبة، لكنهم فضلوا قراءة كلمات مرتجلة على الواقفين  قالوا فيها:
نظرا لفقدان السيف، وإبقاء القبضة بيد أمينة قوية، على الجميع مغادرة المقصلة لحين العثور على السيف المفقود ومتابعة الحكم!.
 
الطرائد
كان الركاب ينظرون من نوافذ السيارة الصغيرة عندما قرر السائق اجتياز رتل المارينز بسرعة فاجأت الجميع، كان الرتل بعشر عجلات مدولبة ومسرّفة.. مدّ الركاب المذعورون، رقابهم في انتظار ما سيفعله المتخندقون في قلاعهم وهي تتمايل كطرائد هاربة.. بعد دقيقة سُمع دوي اطلاقات متلاحقة أصابت الركاب بفزع وأصابت العجلات بعطب لم يمهلها طويلا.. تحت صراخ ركابها مالت السيارة نحو حافة الشارع الترابية معلنة عن سلسلة انقلابات أحالتها الى صفيحة معدنية مخيفة، ضحك جنود القلاع الخائفة المسرعون بقلق، وهم ينظرون عبر نظاراتهم السود السميكة، الى الركاب الذين تناثروا في الخلاء فيما تعالى بكاء طفل من بين الحطام.