بين سطوة الرمز والتماهي مع المفردة المغايرة

ثقافة 2021/06/03
...

 عباس السلامي
 
صحيفة المتلمس للشاعر عبد الأمير خليل مراد، مجموعة شعرية صدرت أول مرة - في تسعينيات القرن المنصرم – أي في سنوات الحصار-  بطبعة متواضعة ليست كما أراد لها الشاعر، لهذا تمت إعادة طبعها أواخر عام 2020 عن دار الصواف بطبعة أنيقة مزدانة نصوصها بلوحات للفنان التشكيلي غالب المسعودي، لوحات فنية بالحرف المسماري استوحى مفرداتها من عالم القصائد. قبل التعريف بالمتلمس علينا أن نعرّف أولاً بالشاعر عبد الأمير خليل مراد - تولّد1953 بابل/ العراق-  اسم عبد الأمير خليل مراد  في الوسط الأدبي يعني للسامع أو للقارئ اللغة الرصينة الغنية التي لا تقبل المساومة، واسمهُ يشير إلى البحث المفرط  في اختيار المفردة، والسعي للحفر في اللغة، وخزين لُغوي ثرّ، هذه الميِّزات قلّما نجدها في شاعر آخر، لم تأتِ الميِّزات من فراغ، بل جاءت بفعل تراكمات كثيرة منها القراءة الغزيرة والعمل الصحفي، فقد عمل  الشاعر  في إدارة صفحات ثقافية عدة، وأهمها عمله كمصحح لُغوي منذ ثمانينيات القرن الماضي، مما أكسبَهُ العمل هذا  حدّة وصرامة والأهم من هذا أمانة  في التعامل مع النصوص.
أما المتلمس الضبعي فهو جرير بن عبد المسيح شاعر جاهلي صحب الشاعر طرفة بن العبد في رحلة مشهورة، ما يهمنا من هذا «المتلمس» تلك الصحيفة التي قذفها في نهر الحياة، وولى هارباً إلى بني جفنة ملوك الشام، بعدَ أنْ عرف ما خُبئَ لهُ في هذه الصحيفة من مصير في حادثة خطط لها ملك الحيرة، نجا المتلمس منها وقُتل فيها طرفة!، ولقِّبَ بالمتلمّس لبيت من شعره يقول فيه: وذاكَ أوان العرض حيّ ذبابه/ زنابيرهُ والأزرق. 
للشاعر أفكار ورؤى تراكمت عادة بفعل تجربته الشعرية الممتدة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي والتي سعى فيها إلى طرح أفكاره ورؤاه كي تصل إلى القارئ، والوصول هذا ما كان لهُ أن يتم لولا الصور الشعرية المستحدثة غير المسبوقة، والتي لم تأخذ فعل الفوتوغراف، ولم تكن مجترّة من كتابات الشاعر نفسه أو مستلّة صورها من تجارب شعرية أخرى!. بسبب تلك العوامل مجتمعة كانت النصوص متفرّدة ومستساغة، وليست عابرة، لهذا استقرت في ذاكرة المتلقي، أي أنها كانت من النصوص التي لها صفة البقاء.
ومادام مراد هو منتجها، لذا تظل علاقته بالقارئ مثمرة وهذا هو أحد أهداف الشاعر، وقابلة للتواصل وهذا هو أهم ما يريده القارئ، لما للقارئ من دور في ديمومة سريان النصوص، فإما التفاعل معها أو الإطاحة بها بعدم الالتفات إليها، وقدرة الشاعر على ترتيب الصور تكون ذا تأثير على فعالية النص وحركيته المتمثلة في تحريك ما في روح القارئ من مشاعر.
كثيراً ما نجد في الشعر الحديث الغموض والإبهام والتهويم وتغييب للفكرة، ولو تفحصنا مجموعة المتلمس لوجدناها سليمة من كل غث، لا تهويم فيها ولا تغييب ولا إبهام في نسيج نصوصها، لكننا نتلمس فيها الغموض اللذيذ، الذي يضفي عليها بُعدا للتأويل والمحاكاة والغوص في النصوص، كما أن (الغموض في الشعر برأي الجرجاني ميزة جمالية ناجمة عن طريقة النظم التي يتوخاها الشاعر في نظمه).
لهذا لا يتحتم على الشاعر أنْ يكشف عما في جعبته ليطرحه طائعاً بين يدي القارئ -بل هي ليست من مهامه-  أن يوضح مقاصده، وإلا وقع الشاعر تحت قيود ذائقة القارئ ومديات فهمه واستيعابه. وهذا بدوره سيحطّ من الشعر ويسهم في تعثّره وعدم سريانه بيسر!. وأقول هذه التقدمة لقارئ مجموعة صحيفة المتلمس. لحدسي بأن القارئ سيقع في مطبّ عدم استيعاب الصحيفة من قراءة أولى، ولا أبالغ إنْ قلت من عدة قراءات!، فنصوص الصحيفة كبيرة بمحمولات ودلالات أضف إلى ذلك لغتها الثرّة، لهذا فالنصوص تحتاج بالتأكيد إلى قارئ يمتلك من الوعي والذائقة والفهم. بما يمكنه من تلمس ما فيها.
نصوص مجموعة صحيفة المتلمس هي ما بين التفعيلة والنثر كتب أغلبها في ثمانينيات القرن الماضي، وكلنا يعرف ماذا تعني الثمانينيات لنا، إذْ نتلمس من قراءتنا لها حضور الرمز الذي أخذ به عبد الأمير خليل مراد في تمثله لشعراء أو شخصيات تاريخية أو تناص مع آيات من القرآن ومقولات العرفانيين، فالتمثل هذا يقيم تلك العلاقة ما بين القارئ والنص عبر حوار فعّال يفضي بالنتيجة إلى قراءة تلامس النص، وتفكّ أسراره من خلال محاكاة الرمز أو الشخصية، أو المقولة ودلالتها، أضف إلى أنَّ الترميز وسيلة اتخذها الشاعر ليحتمي بها من مغبّة المساءلة، خاصة في هذه المجموعة التي أخذت بالديني والتاريخي والعرفاني كمحور فكري -في فترة الثمانينيات العصيبة، والتي لا يمكن للشاعر فيها أن يقول كل ما عنده، لهذا نراه يكتب بحذر شديد- ليوضح بأن السجالات الفكرية كانت ومازالت محتدمة، كذلك فإن أخذ الشاعر بتلك الوسائل التي ذكرتها في متون النصوص لتعزيزها وإدامة فاعليتها ومعرفيتها وعرفانيتها، ففي «نص إيماءات بعيدة ص37 يضمّن الشاعر النص ببيت شعر للمتنبي: (وهو يصرخ في وجهه «ومن عرف الأيام معرفتي بها / من الناس روى رمحه غير راحم).
ليس بالضرورة أنْ يأتي التضمين في صفّ النص أو يكون داعماً له أو معززا ديمومته وتقبّله! فاجتناب الناس عبر العزلة التي دعا لها المتنبي يتعارض ومسيرة عبد الأمير خليل مراد المنفتحة على الآخر. 
ليست العزلة واجتناب الناس والقساوة عليهم حاضرة في قاموسه ولا في توجهاته. ولا أجد الصواب في قوله: «يدوس بقية روحي المحترقة، لكني أطلع من شرنقتي ذئبا» في ما لو تتبعنا مسيرة الشاعر وروحه المسالمة وغير الصدامية والتوافقية مع الحياة والآخر... وأتساءل هنا أنّى لشاعر بقلب طفل أن يكون ذئباً؟؟.
  وما يعزز تساؤلي قوله في سياق النص: (مُرتدياً خوفي، أبحر في يمِّ الكلمات وأمضي، أتفيَّأ كالعاشق أُرجوحة حلمي وأنا بينهما طفلٌ يعصر كل صباح جَمر السنوات)، إذ ليس للشاعر سوى كلمات يؤثث بها أرجوحة حلمه، ليس للشاعر / الطفل الذي يرتدي خوفهُ سوى أن يقلب فرار سنوات العمر جمرةً جمرة. وهو يرى الأراجيح محملة بالريح تعلو وتهبط في زمن الحرب.
لا ضير في أنْ يستحضر الشاعر الرمز أو يستثمر من آيات القرآن، أو يضمّن بمقولات أو أبيات من الشعر، لكن الاستحضار أو الاستثمار أو التضمين يجب أن يكون في حدود محسوبة منها قدرة النص على استيعاب الرمز ومحمولاته، وأفعاله وتأثيره في زمنه، وانعكاسه على زمن كتابة النص. فالحضور الطاغي للرمز. واستثماره بكم غير محسوب يربك النص ويُسقِطهُ في ما لا يحتمل!.
ففي المقطع الثاني من نص احتمالات ص15 يقول: ((خذني هذه المرّة لأضرم النار في جسدي الناحل ولا أهمّ بشيءٍ لم ينله أبو الطيب المتنبي، فليس عندي إلا بقايا جمجمة سوداء وعظام لا يكسوها اللحم))، معنى الإشارة (أريد أمرا والليالي تحول بيني وبينه وأنا بطلبي وقصدي أطردها عن منعها أياي من طلب ذلك الأمر). 
ولو رفعنا ما قاله المتنبي هنا وإشارته للبيت الشعري المدرج في الحاشية لما أثر هذا على النص البتة، بل بالعكس لِإنساب النص بحرية مطلقة لما فيه من شعرية باذخة، لكان النص حاضراً ولحق مبتغاه بقوة لدى القارئ، بما يحمل من دهشة الشعر 
وعذوبته.