أميلي ديكنسون.. بطلة غير متوقعة في عصرنا

ثقافة 2021/06/08
...

 ترجمة: مي اسماعيل
 
يقول كاتب المقال: {منذ وفاتها عام 1886 طاردت الشاعرة {أميلي ديكنسون} أذهاننا بأشكال عديدة؛ إذ كانت {الفتاة الصغيرة} الميتة مبكرا، التي أعجب بها رجال متميزون، والعانس المنعزلة ذات الملابس البيضاء القابعة وحدها في غرفة نومها. وفي تأويلات أكثر حداثة: المراهقة المتمردة العازمة على تحطيم هياكل السلطة بعبقرتيها المدمرة. وإذ يستمر العالم بتحمُّل خراب جائحة كورونا؛ تقدم شبحٌ آخر لديكنسون الى الضوء.. شبحٌ عمره نحو أربعين سنة؛ يبدو بالتناوب ضعيفا وقويا، منعزلا ومهاجما.. يحمل العبء الثقيل لأزمات خارجة عن إرادته، لكنه يظل غير خاضع لها. صادفت {ديكنسون} تلك بينما كنت أعد اطروحتي التي تستكشف معنى التقدم بالعمر في أميركا؛ وما زالت معي منذ ذلك الحين}.
 
عمق الخسارة
يعرف معظم المعجبين بشعر ديكنسون أنها قضت معظم سنوات عمرها وهي بالغة في ما نسميه عزلة اختيارية؛ فلم تغادر منزل أسرتها (في آمهيرست- ماساشوستيس) إلا نادرا. وقد لا يُعرف عموما أنها قضت سنواتها الاثني عشر الأخيرة في حالة من الحداد شبه الدائم. بدأ ذلك بوفاة والدها؛ فرغم سلوكه الصارم تمتع {أدوارد ديكنسون} بعلاقة خاصة مع أميلي، ابنته الوسطى. وإذ تشير رسائلها الباقية اليه بأنه {أكبر وأغرب شخص غريب}؛ يسمع المرء منها انزعاجا حنونا مصحوبا بتفان حقيقي.. توفي أدوارد عام 1874 بعيدا عن بيته. توالت الخسارات واحدةً بعد أخرى؛ إذ توفي صديق مراسلتها المفضل الصحفي {صموئيل بولز} عام 1878. وبوفاة {ماري آن إيفانز} المعروفة عموما باسمها الأدبي- {جورج أليوت} عام 1880؛ فقدت ديكنسون روحا أليفة لها.. إنسانة {فانية}.. على حد تعبيرها {قد ارتدت الخلود بالفعل} أثناء حياتها. وكانت خسارة والدتها {إميلي نوركروس ديكنسون} مختلفة جدا؛ إذ لم تتمتع بعلاقة جيدة معها أغلب حياتهما معا، لكنها أصبحت مهمة إلى حد ما على الأقل بالنسبة لابنتها على فراش الموت.. كان ذلك عام 1882؛ ذات العام الذي أخذ منها معبودها الأدبي {رالف والدو إيمرسون} ومعلمها الأول {تشارلز وادزورث}. جاء العام التالي بوفاة ابن أخيها المفضل {غيلبيرت} بحمى التايفوئيد؛ بعدما تسبب مرضه بإحدى رحلات ديكنسون النادرة خارج المنزل. وفي العام الذي تلاه؛ استسلم القاضي {أوتيس فيليبس لورد} (وهو الشخص الوحيد الذي تابعت معه ديكنسون علاقة رومانسية مؤكدة خلال حياتها) أخيرا لعلة دامت عدة سنين؛ وقد وصفته الشاعرة وهي منهكة بلقب {آخر من أضعناه}. 
 
تراكمات
اذا.. ما هو الأثر الذي تركه ذلك الكم من الحزن في ذهن واحدة من أعظم فنانات أميركا رؤية؟، لم تكشف رسائلها الا القليل؛ لكنها اعترفت بصراحة كافية حينما كتبت للسيدة {سامويل ماك} عام 1884 قائلة: {كانت الوفيات عميقة جدا بالنسبة لي، وقبل أن استطيع رفع قلبي من واحدة؛ كانت تجيء أُخرى}. استخدام وصف {عميقة} كان اختيارا ملفتا للنظر؛ جعل الأمر يبدو وكأن ديكنسون تغرق في كومة من الاحباب الموتى. وكلما رفعت رأسها طلبا لنَفَسٍ من الهواء أُضيف شخص آخر الى الكومة الكبيرة. هذه من سمات ديكنسون، وإذا كانت مخيلتها تتقلص عند تصور الاتساع؛ فقد إزدهرت عند تصوير العمق.. ومن أكثر الصور الآسرة في شِعرها وصف أكوامٍ من الأشياء التي لا يمكن تكديسها: الرعد والجبال والرياح. وقد استخدمت ذات الأسلوب خلال الحرب الأهلية لتمثيل تضحية الجنود البطولية والمروعة:
 
كان السعر عظيما.. دفع ببذخ 
فهل نستحق شيئا
إن أرواحا يجب تكديسها؛ مثل الدولارات، 
قبل أن نحصل عليه؟
 
وحينما وصفت خساراتها الأكثر شخصية أثناء أعوام عقد 1870؛ بدا وكأن ديكنسون تخيلت كوما آخر من الاجساد البشرية يرتفع أمام ناظريها.. ولعله كان الكوم ذاته؛ إذ أضيف أحبابها الراحلون الى الجنود القتلى الذين ما انفكت تتأملهم حتى نهاية حياتها. في ضوء ذلك لا تبدو "الوفيات" عميقة جدًا فحسب؛ بل ذات شكل لا يسبر غوره. 
 
حياة بعد الموت
في وقت كتابة هذا المقال؛ فاق عمق كوم الحيوات ((المفقودة)) التي باتت تلقي بظلالها على حياتنا نحو ثمانمئة ألف، وهو كوم يزداد عمقا كل ساعة. أظهرت الصورة التي رسمتها ديكنسون مدى دقة فهمها لما قد نشعر به؛ الذي يتضاءل أمام جبل من الفناء لن يتوقف عن النمو. ذلك الغضب ذاته، والإعياء والشعور بالعبثية كانوا رفقاءها الدائمين أواخر حياتها. لحسن الحظ كان لديها رفاق آخرون؛ إذ كشفت دراسات لاحقة أن ديكنسون كانت أفضل شخص يهتم بشبكات التواصل الاجتماعي؛ بالحفاظ على العلاقات المتولدة العميقة عن طريق المراسلة من منزل الأسرة. لم يتوقف انتاجها الشعري طيلة حياتها؛ رغم تناقصه كثيرا قرب نهاية حياتها، وما قدمته تضمن بعضا من أغنى تأملاتها عن الموت والمعاناة والخلاص. تردد أشعارها تلك صدى الأزمة الحالية، والتي باتت حماية {الذهن اليومي} خلالها عملا يوميا يستنفذ كامل الوقت.. تقوض التقارير الإخبارية الحافلة بتحديثات أعداد الموتى أسسنا الفكرية والروحية؛ فيبدو أن كل شيء قد ضاع.
ولكن إذا كان التوتر والحزن واضحين وملموسين في قصائدها الاخيرة؛ فكذلك كانت الشجاعة.. اختارت راوية القصيدة (مع شعورها بالوحدة) التعبير عما شعرت به ديكنسون، وأن تقيس وتسجل عبء الخسارة التي فرضتها عليها الحياة. المعتقدات قد تشفى إذا جرى تضميدها، وبينما لم يمتلك رجل ما الجرأة الكافية لمواجهة {المدرَكات} الأعمق التي كشفتها الوفيات الكثيرة داخل الذهن الانساني؛ فإن راوية القصيدة لن تستبعد قيامها شخصيا بذلك. فلا يزال هناك في هذا العالم المنكوب متسع لتلك التجربة الحكيمة التي لا ينبثق منها الأمل فحسب؛ بل يزدهر. ورغم عيشها تحت ظل الموت؛ فقد بقيت ديكنسون مفتونة بالحياة.. وهذا، فضلا عن كل شيءٍ آخر؛ يجعلها بطلة في وقتنا هذا.. 
ماثيو ريدموند (جامعة ستانفورد) 
- موقع {ذا كونفرسيشن}