{أورا} حين يتوقف الزمن من أجل خلود زائف

ثقافة 2021/06/09
...

 هدية حسين
 
يحث الخطى فتوصله الى بيت عتيق يلفه الظلام من جميع جوانبه إلا في الغرفة العلوية التي لا يسكنها أحد، إذ ستصبح غرفة فيليب مونترو، الشاب الذي قرأ إعلاناً في الصحف يقول (مطلوب شاب متخصص في التاريخ، أنيق يعمل بضمير، يجيد اللغة الفرنسية، يُفضل أن يكون قد عاش في فرنسا فترة من الزمن، أربعة آلاف بيزو في الشهر، جميع وجبات الطعام، غرفة مكتب، غرفة نوم مريحة)، هذا الإعلان نشرته السنيورا يورينت العجوز التي تجاوز عمرها المئة عام، والذي جعل الشاب فيليب يهرع الى بيتها، فهو متخصص في التاريخ وحاصل على منحة من السوربون، وحول هذا الأمر وما حدث في البيت الغارق في العتمة تدور أحداث رواية الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس (1928ـ 2012) والذي يعد من بين أهم كتاب أميركا اللاتينية وكان مرشحاً لجائزة نوبل، وهي من رواياته القصيرة جداً، إذ لا تتجاوز الـ 67 صفحة، ولا أدري كيف صنفها النقاد، أو كاتبها على أنها رواية، ولنتذكر قصة (الليالي البيضاء) لفيودور دوستويفيسكي التي جاءت بـ111 صفحة ونشرت في العام 1848، بينما رواياته كبيرة الحجم اقتربت من الألف صفحة تقريباً، فرواية الجريمة والعقاب على سبيل المثال عدد صفحاتها 980 صفحة بجزئين، ولو أجرينا بحثاً مطولاً لوجدنا الكثير من روايات كبار الكتاب في زمانهم أطول بكثير من رواية أورا لفوينتس.
عنوان الرواية أخذ من اسم إحدى الشخصيات وهي ابنة العجوز يورينت  صاحبة الإعلان، تعيش معها في البيت العتيق يثير الكآبة في النفس، ويلقي بظلاله الكثيفة على الشخصيات حتى لكأنها والظلام الذي يلفّه شيء واحد، كتبت الرواية بضمير المخاطب وبأسلوب مكثف وساحر، بين الحلم والواقع المر، إذ يهيمن الزمن الثقيل على البيت، لكن الأربعة الاف بيزو والسكن المجاني تستحقان المجازفة لشاب مثل فيليب مونترو حتى ينهي مهمته التي حددتها العجوز، ترتيب ونشر مذكرات زوجها الراحل الذي مات قبل أن يكملها، والتي تحتاج فعلاً الى متخصص في التاريخ بسبب الوظيفة التي كان يشغلها زوجها الجنرال يورينت.
يهيمن الزمن الثقيل على البيت، صمت لا يخرقه سوى مواء القطط وخربشات الفئران وغرابة تصرفات العجوز التي تريد تكريم زوجها قبل أن تموت، وهي في حقيقة الأمر ميتة روحاً وجسداً مريضاً يعتاش على الأدوية، لكن فيليب مونترو يتحمل ويريد أن يبقى أطول فترة في البيت بسبب حاجته الى المال والسكن، وها هو يتسلم الجزء الأول من مذكرات الزوج بأوراقه الصفر العتيقة التي تكاد تتمزق بين يديه لقِدمها، إذ مرت أكثر من ستين عاماً على وفاته، وكُتِبت بلغة بسيطة بحاجة الى الكثير من التحسينات، وتتعلق بطفولة الجنرال ودراساته العسكرية في فرنسا وعلاقاته مع نابليون الثالث والمؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها وشبكة علاقاته.
الرواية لا تدور حول المذكرات فقط، فدور هذه المذكرات محدود، وإنما حول العلاقة التي ربطت بين أورا ابنة اخت العجوز وبين فيليب، هو الذي انشغل بها أولاً واستغرب كيف لهذه الشابة أن تدفن نفسها في هذا البيت الذي يشبه القبر، ولكثرة تفكيره بها اعتقد بأن القدر أرسله لإنقاذ أنوثتها قبل أن تشيخ في هذا البيت، إنها تعمل بصمت، تتحرك بأوامر خالتها، تعيش بلا أحلام، تعد الطعام وتجلس معهما على المائدة ولا تنبس بكلمة، تكبر الظنون في رأس فيليب فيشعر بأن أورا الجميلة تعيش مع خالتها مرغمة، ويوماً بعد يوم يحس بأنه واقع في غرامها، لم تعد المذكرات تشغله قدر ما تشغله أورا التي أصبحت هاجسه الأول، وبين الحلم والواقع تتأرجح أمانيه بامتلاك جسد أورا، وهذه العلاقة هي التي تحرك الساكن في هذا البيت الذي جاءه لهدف محدد ووجد شيئاً آخر، وما يحدث مع فيليب يحرك مخيلة القارئ ورغبته في فك أسرار هذا البيت وساكنتيه، العجوز والشابة، كما لو أنهما اختصرتا حركة الزمن بالشباب وآخر محطات العمر، حياة وموت.
في الجزء الثاني من مذكرات الجنرال يحكي عن زواجه بالسنيورا، تزوجها وهي ابنة الخامسة عشرة، لكن مساحة الكلام عن الزوجة تتقلص لصالح مهماته العسكرية، يقضي فيليب ساعات يومه بعد التحسينات التي يجريها بانتظار ما سيأتي من علاقته بأورا التي امتلكت حواسه، ومن جانبها لا تكترث به كثيراً، كما لو أنه مصنوع من أثير لا يُرى، إنها تتحرك مثل آلة وسط ظلام البيت الذي لا تطل نوافذه على الفضاء وإنما على جدران بعد أن رفضت العجوز إخلاءه بأي ثمن لأنه يحمل ذكرياتها مع زوجها الميت، لذلك أحيط بيتها بجدران البيوت التي أقيمت في المنطقة، وتجري أحداث الرواية من بدايتها حتى نهايتها داخل هذا البيت الذي يشبه المعتقل، كأن الحياة معدومة خارج جدرانه.
لا نعرف شيئاً عن ماضي الشخصيات أكثر من جمل بسيطة لا تغوص في عوالمهم الخاصة، فالبيت بظلامه وضوئه الشحيح من خلال شموعه هو البطل المهيمن على الشخصيات، وتنتهي الرواية بشكل مفاجئ لا يشبع القارئ الذي ينتظر من المؤلف المزيد عن علاقة فيليب وأورا، وكيف انتهت مذكرات الزوج، وماذا عن السنيورا التي لا تريد أن تموت، ثمة أسرار لم تُكشف، وهناك كلام ما يزال وراء اللسان أو على أطرافه.