الذاكرة الثقافيَّة

ثقافة 2021/06/09
...

لؤي حمزة عباس
يشكل التنوع الكتابي مصدراً أساسياً من مصادر ثراء تجربة الكاتب، مثلما يكشف فاعلية التجربة وسعة حقلها، وهما تعملان بوصفهما حافزين من بين حوافز عديدة تدفع الكاتب لمغادرة حقل إبداعه الأساس مغادرةً مؤقتةً ليغرس بعض أشجاره في حقول خصبة مجاورة، والأمثلة على ذلك حاضرة في مجمل تاريخ الإبداع الأدبي، ولا تقاس التجربة الكتابية، عادةً، بما يحققه الكاتب داخل حدود حقله الشعري أو السردي أو النقدي حسب، بل بمقدار ما يحقق من خطوات مضافة بكون مقدورها الإشارة لحيوية التجربة وما تختزنه من قدرات متجددة تعزز حضور الكاتب في حقول الثقافة الواسعة ولا تجعل منه أسير حقل إبداعي واحد أياً كان موقعه فيه ومهما كانت فاعليته وثراؤه،.
ذلك ما يمكن تأمله، على نحو خاص، ضمن منجز الروائيين عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، وقد كان بإمكانهما الاكتفاء بالرواية حقلا إبداعياً يمنح كاتبه متعة الانجاز الخيالي مثلما يمنحه الفرصة لرصد تحولات الواقع 
وتأمل علاقاته ووقائعه الاجتماعية والسياسية والتاريخية وسواها، وهي تكوّن مصدراً أساسياً من مصادر التجربة الإبداعية لكل منهما، لكنهما وسعا فضاء إنجازهما ليمتد لحقول متعددة فكرية ونقدية وجمالية، ويرصدا بوعي عالٍ بعض ظوهر المجال الثقافي، فمنحا الثقافة العربية مؤلفات مهمة في مجالات السيرة الذاتية، وأدب الصداقة، وقراءة المدن، فضلا عن النقد الأدبي ونقد الفن، بما يوسع من حضورهما ضمن ما يسميه عبد الرحمن منيف بـ (الذاكرة الثقافية)، وفي ذلك يقول في كتابه (لوعة الغياب) {صحيح أن جزءاً فقط مما يكتبه أيُّ كاتب هو الذي سيبقى في النهاية، وما عداه ستتراجع أهميته، وقد يطويه النسيان، نظراً للتفاوت بين عمل وآخر، وأيضاً لانتفاء وتغير الأسباب التي أملت بعض مثل تلك الأعمال، لكنه من الضروري أن نلتفت لأهمية هذه الأعمال في حينها، وأن نجعلها جزءاً من الذاكرة التاريخية، بدل أن نترك هذه المهمة للأجيال اللاحقة، وللأجانب لكي يعرّفونا على ما نملك وما قدمه مبدعونا!}، وذلك ما يعبّر عن دوافع الكاتب في إنتاج كتابه متجاوزاً في لوعته الوفاء الشخصي، وهو عامل إنساني رفيع، للاسهام بتشييد ذاكرة حية ومنصفة، وللتحريض على قراءة آثار مبدعينا وتأمل منجزهم، بهدف المراكمة الإيجابية لتحفيز الذاكرة المطلوبة والضرورية، بتعبير منيف، ليكون الحديث عن الغياب، عندئذ، استعداداً لشروق جديد يملأ الكون بالضياء.