دخان المرافئ

ثقافة 2021/06/09
...

  باسم عبد الحميد حمودي

 بعد روايته الخامسة (مصحة الوادي) التي صدرت عام 2020، نشر الاتحاد العام للادباء والكتاب ببغداد حديثا رواية اسماعيل سكران السادسة (دخان المرافئ) .
لم يقتصر نشاط سكران على كتابة ونشر رواياته الست، إذ أصدر قبل هذا عدة مجموعات قصصية منذ 1977، فضلا عن مجموعتين مترجمتين من القصص القصيرة.
 روايته الجديدة تصور جانبا من وقائع حصار الكوت في الحرب العالمية الاولى، خلال حركة المجموعة البشرية التي اختارها الروائي لتكون ممثلة للمهاد العراقي داخل الصراع بين الدولتين المتناحرتين على ارض الرافدين آنذاك: الدولة العثمانية التي كان العراق جزءا منها، والامبرطورية البريطانية الآتية جيوشها عبر الخليج من أرض الهند، درة التاج البريطاني يومذاك.
كان العراقيون جزءا من وقود هذه الحرب التي امتدت لسنوات وانتهت بخروج العثمانيين ودخول الانكليز والوحدات الهندية الخاصة الى بغداد.
كانت الوقائع التاريخية في رواية اسماعيل سكران جزءا مختارا من نشاطات الشخوص الدرامية التي تقف في مقدمتها الزوجة الهاربة (مكية) مع ابنتها المراهقة (نازك) من البصرة عبر سفينة ركاب الى الكوت تخلصا من عدوانية زوجها الثاني واستهتاره وتحرشه بالفتاة.
تنتقل مكية مع ابنتها نازك عن طريق السفينة الى مدينة (الكوت) صحبة عبد الفتاح الذي وجد لهما دارا للسكن في تلك المدينة التي صارت مركزا اساسيا من مراكز الصراع بين القوتين المتحاربتين في العراق خلال الحرب العالمية الاولى.
يقدم الروائي في روايته عدة شخصيات رئيسة هي: مكية - ابنتها نازك - عبد الفتاح تابع قادر باشا الملاك- صبري صديق عبد الفتاح، وقريب مكية الذي لجأت إليه، ويقدم شخصيات ثانوية ضمن أجواء الرواية في مقدمتها: المهرب علي الهندي- حسقيل بيحة التاجر والصائغ اليهودي-حنا الأرمني الذي يسكن واحة الحوف وكيلا للانكليز حيث يبقى علي الهندي أسابيع لشراء الأسلحة وتهريبها الى الكوت عبر الجمال والسفن.
يصنع الروائي علاقات ود بين عبد الفتاح ومكية وصبري ونازك تنتهي بالزواج بعد انتهاء الحرب، لكنه يجد في ابراز الصورة الاجتماعية داخل الكوت بين مكية – نازك – عبد الفتاح – صبري- أهمية تتوازى معها أحداث معارك البصرة ووصول الانكليز الى الكوت وإخراج العثمانيين منها، ثم حصارهم مع قائدهم طاوزند داخل المدينة.
وإذا كان الصراع الدامي بين الغزاة الانكليز والعثمانيين الذين كان العراق جزءا من ممتلكاتهم قد وضع رجال الكوت تحت طائلة الشبهة لدى الانكليز المحتلين والتعامل بقسوة من قبل جيش آل عثمان الذي عد عرب البصرة والكوت وسواهم من العراقيين جزءا من وقود الحرب، إذ جنَّد القادرين منهم على حمل السلاح، وبينهم: علي الهندي وصبري وعباس وغيرهم من جلساء مقهى (قندي)، ودمر شوارع المدينة وأسواقها لصالح خدمات جيشه.
ورغم توازي حركة الرواية بين الكتلة العراقية (مكية وعبدالفتاح وصبري وعلي الهندي...الخ)، وبين الكتلتين البشريتين الأخريين:
كتلة الانكليز وهنودهم، وكتلة العثمانيين وجنودهم العراقيين المجندين قسرا، فإننا لانجد في الرواية أصداء للحملة التي قادها المرجع الديني  الكبير محمد سعيد الحبوبي قبل عام الى الشعيبة مع متطوعيه من العرب والكرد لإسناد الجيش العثماني ضد الغزاة الانكليز وخسارته المعركة مع قائد الحملة الذي انتحر علانية، في حين استشهد السيد الحبوبي كمدا في مدينة الناصرية.
تنتهي الرواية بجلاء العثمانيين واحتلال العراق من قبل القوة الجديدة، وانتقال مجموعة من الشخوص الى بغداد بعد زواج مكية وعبد الفتاح ونازك وصبري، وانتقال أعمال الصائغ حسقيل اليهودي الى بغداد ايضا.
كان الروائي دقيقا في تصوير معاناة سكان الكوت خلال الحرب والحصار ومتاعب الجيشين المتحاربين، واقتناص الصور الفرعية للحركة الانسانية وسط جوع الأسر وهروب المجندين وقسوة القوات الاجنبية مع السكان، مسجلا لحظات هاربة من تاريخ المدينة الشعبي الذي بناه عبر الصورة السردية التي قدمها لرحلة مجموعة بشرية عراقية عبر تاريخ المدن التي وقعت تحت وطأة احتلالات متكررة.. تظل رواية (دخان المرافئ) أنموذجا للروايات التسجيلية عبر تاريخ العراق الحديث.