صيغة التفضيل الشفاهيَّة

ثقافة 2021/06/09
...

د. أحمد الزبيدي 
 
ينتظم الفكر من خلال منهجه، الذي يعكس الرؤية الإنتاجية والنظام العقلي؛ فالدراسة لفكر معين لا تتوضح ملامحها إلّا عبر المسك بتلابيب المنهج. وإذا كان المنهج هو المساعد على التفكير ذاتيًّا بما ينظم خطواته، فإنّه ليس بمنعزل عن المرجعيات الثقافية المهيمنة في البنية المجتمعية. 
  حين نتوجه إلى الثقافة العربية القديمة فهل ثمة نسق منهجي يعكس الرؤية الإنتاجية للفكر العربي وثقافته؟، وهل يمكن تلمس ذلك النسق باتجاهات فكرية متنوعة؛ أيمكن إيجاد نسق منهجي محدد في ثقافتنا يعكس الرؤية الفكرية وآلية تكوينها؟.. ترى ما الذي سيدور بذهننا لو تصفّحنا كتاب (مجْمع الأمثال) للميداني (518 هـ) ولماذا المثل تحديدا؟ لأن المثل، حسب قول الزمخشري (هو قصارى فصاحة العرب وجوامع كلمها ونوادر حكمها وبيضة منطقها وزبدة حوارها وبلاغتها) سنرى، نصب العين، كيف أفْرد الميداني للأمثال التي جاءت على صيغة (أفعل) بابا في كل حرف هجائي اعتمد تسلسله بمعجمه (مجمع الأمثال)؟، ولِمَ تكاثرت الأمثال على هذه الصيغة؟، ولِمَ طفحت الكتب النقدية بالمفاضلة المعيارية سواء على المستوى الجمعي أو الفرد؟.. وفي الدين نجد (المفاضلة) فهناك أولهم إسلامًا وأول من ضرب بسيفين، وهناك المؤمن المكي الذي سبق المؤمن المدني.. من هنا نفهم أن الثقافة العربية القديمة ذات مركزية معيارية تقوم على المفاضلة التي جاءت نتيجة عوامل متسلسلة متناغمة ومترابطة؛ فلو قلنا بالبعد الاجتماعي ذهبنا إلى النسق القبلي وهو يقودنا إلى الفحولة المبنية على (الفصاحة) التي تتمظهر بالقدرة (الشفاهية) على التعبير والتأثير، وعليه فإن المنهج التفاضلي هو منهج معياري مركزي نابع من طبيعة الثقافة العربية بمختلف أصنافها وفروعها واتجاهاتها، ولو تعمقنا أكثر لوجدنا أن هذه الثقافة هي إلغاء (للآخر) المختلف أكثر مما هي اعتراف بحضوره ووجوده؛ فهي غيرية صِدامية لا صِراعية حوارية، ومن هذا المنطلق فالهيمنة الفردية لا تسمح بالتعددية.. ولكن هل تنطبق تلك المنهجية التفاضلية الفردية على الثقافة العربية المعاصرة؟، أو هل يمكن أن نصفها بـ (الحديثة)؟، وهي التي التفتت، أوّل ما التفتت إلى (الآخر) أعني الحداثة تقوم على احترام الآخر والتعددية والفردانية الإنسانية والمرجعية العقلية.. هل أصبحت الثقافة العربية تحترم الآخر أو شكلت تصورًا فكريًّا له؟.. أعتقد أن ثقافة عربية مازالت تنتجها السلطة الدينية بمرجعيات قبلية وإيديولوجيات متطرفة لا يمكن أن تخلق تصورًا إيجابيا للتعددية الثقافية، وإن كان ثمة مشاريع عربية تصدح ليل نهار للتحديث الثقافي فهي مشاريع فردية ومحكوم عليها بصفة المعارضة أي (الإلغاء) لأنها خطرة على (حرمة) مقدسات الثوابت المعرفية وهدم للقيم الفردية التي انتجها (العقل الفاضل)، ومن ثم فإلى اليوم نحن نكرر نشيدنا الثقافي: أفضلية السابق على اللاحق.. أفضلية الذات على المنتمي إليها وعدوانية الآخر المختلف عنها، ومن هنا فإن منهجية المفاضلة مازالت هي من تحيي الذات وتميت الآخر.