ماتشو بيتشو مرتفعات نيرودا الشعرية

ثقافة 2021/06/10
...

طالب عبد العزيز 
 
 يمكننا الحديث عن بابلو نيرودا، الشاعر والانسان، بوصفه واحداً من أكبر شعراء العالم، فهو الذي ترك بيننا القصائد التي ظلت خالدة في اعماقنا، نحن الذين قرأناه بداية السبعينات، وما زلنا نقرأه، الى اليوم، بذات الروح، قبل نوبل التي حازها، وقبل حادثة وفاته الشهيرة، بعد الانقلاب الدموي الذي أطاح بحكومة بلاده، تشيلي 1973. البلاد التي ظلَّ أمينا لها، والشاعر الذي جاءنا من الشعر لا غير. في كتاب حديث له (مرتفعات ماتشو بيتشو) ترجمته العراقية سحر أحمد، وصدر عن دار الخيال بالجزائر هذه السنة 2021 نجده ذلك الشاعر، المحتفل الابديّ بالطبيعة، والمبشّر بإنسانها، المتعلق بالزهر والحجر والبحر، المحتفظ بأثرها التاريخي، الصانع المقتدر في استخلاص مادته الشعرية من بين ذلك كله: «ترسلُ كلُّ زهرةٍ لقاحَها الى الزهرةِ الاخرى/ وتحفظ الصَّخرةُ زهرتها/ في ردائِها البالي من الالماس والرّمل». مؤثِثِاتُ شعر نيرودا لا تبلى بالزمن، هي تملك سرَّ خلودها، وإنْ تعرضت لعوادي الطبيعة، كالريح والمطر، فانسانه في القصائد أزليّ، خالدٌ، يعي معنى وجوده وخلوده معاً: «يسحق الرجلُ بتلاتَ النَّهار التي يحصدها من الجداول، التي تصبُّ في البحر/ ويحفرُ المعدنَ النابض بين يديه».
 في كل لغات العالم، وعبر محاولات التحديث في الشعر، التي استمرت الى اليوم، ظلت قصائد نيرودا نابضة فينا، مختلفةً عن شعر كثير قرأناه، على الرغم من تشبّعنا بها، فنحن نهتدي الى لغته، ونعرف مفرداته، بل ونتلمس الامكنةَ التي يأخذنا لها، في رحلة أحسن تصريفها بين شعره وقارئه، شعر نيرودا يعيدنا الى لحظة خلقنا الاولى، والى حيث يجب أن نكون أمناءَ على العلائق، التي تعيدُ ترتيب الكون مع موجودات. هناك نسغ شعريٌّ، ودفق عضوي يحرصُ على جعل مادة الشعر مستلةً من صميم ما نحبّه ونعاني منه معاً، ونسعى لترويضه فينا، ولجعله آمناً، في مواءمة غنائية طرفاها الانسان والطبيعة، الطبيعة التي لا تقبلنا منكسرين عليها، مثلما لا تقبلنا متوحشين فيها.   «كالأعمى عدتُ الى الياسمين». أو، «ترك الندى أعلى شجرة الخوخ/ قبل ألف سنة رسالته الصافية/ على الغصن المنتظِر/ يا لقلبي، يا للوجه المسحوق بين تجاويف الخريف». ترى، هل هناك أبلغ وأخلد من رسالة الندى؟ التي عمرها ألف سنة، والتي ظلت عالقةً بالغصن، الذي ظلَّ منظِراً.. ما يفعله نيرودا في قصائده هو ما يفعله المثَّال، الذي لا يجدُ صعوبة في طاعة الحديد لأصابعه. لذا، فهو على يقين تام بأنْ «لا أحد سيدفن كلمات الوداع من جديد/ وأنَّ الرأس سيجمع هواءه من الجدول الضيق، لأنَّ أكثر من واحد سيدلّه على الصخرة، حيث سقط أحدهم، على الشجرة حيث صُلب آخر، وهناك من خبأ نهراً من البروق الصفر، ونهراً آخرَ من النمور المرقطة الدفينة.   «ماتشو بيتشو، المدينة العالية، أم الدرجات الصخرية، ملاذي الاخير، حيث كلُّ دنيويٍّ لا يخفى تحت ملابس النوم/ مثل خطّين متوازيين، مهدّا البرَّقَ
والإنسانية».