طاقة المغادرة في رؤى شوبار

ثقافة 2021/06/14
...

  محسن الشمري 
 
ممكنات محمود شوبار تكمن في استيعابه للطاقة المودعة في رحاب رغبته بالمغادرة.. المغادرة ليست بمعناها الانفصالي الهجروي، انما بمفهومها الحركي الانتقائي المكتفي بعلاماته الفارقة التي تحقق جوهر الاختلاف والتمرد. مقابل ذلك دأب الفنان الى تأسيس عالم افتراضي خاص، لم تكن صوره مألوفة من قبل، وغير ذات شبه بعالمه المرئي الذي شوه التزييف معالمه حتى امسى ضبابياً نصفه بالكاد ان يرى او يقرأ، اما النصف الآخر فمتآكل متهالك أطاح بأجزائه وبعناصره المحو المستمر، والتوضيح المزيف. 
وازاء ذلك كان عليه ان يجد في المغادرة حلمه في الاستحواذ على فسحة كافية للعب والمناورة مع احتمال ان تتحول تلك الفسحة الى ميدان للصراع والمقاومة، وربما المجاهرة المكشوفة بما تقتضيه هذه الجلبة من إمكانيات للرد والبدل، او لبذل مزيد من الوقت لتفكيك بنية الشكل السائد، وتفريق مصفوفاته السالفة، وبعثرة ما خسر الاخرون من وقت وجهد من اجل جمعه وترتيبه. 
في هذا المعترك دخل شوبار بثقله الجمالي الى المدن المثقوبة بالعلامات المرورية، وأطلال المآذن والقباب، وبقايا ركام ورماد. يحمل ذاكرة اولية تحيله الى نوق وجمال (مدرسة بغداد) وابوابها المفتوحة على جهاتها الاربع، يئمها الهاربون منها واليها والفارون من فرط جحيم القضاة، فأدرك دواعي المغادرة وضرورة التغيير وتحويل وجهة البوصلة نحو دالته الروحية (هنا بغداد)، (الموصل ترحب بكم). 
لا يعنيه ما جاء بسلسلة الأعمال الدراماتيكية التي تتحدث عن جماليات الانكسار في (غرق الميدوزا) و (الحرية تقود الشعوب) إنما من أجل التغيير الذي يشاكس فيه رؤى (نيتشه) في تصريحه (أنا أرى السماء فارغة) ويراها شوبار (مخبأً كبيراً للأسرار) مكتنزة وملبدة بالصور غير المرسومة ولم تدركها الأبصار بعد. ويراها ايضاً مكتظة بالرموز العالقة التي تتبادل المواقع وتتفاوت في الانتشار، (الامام العباس) يتوسط المسافة بين السماء والارض، وكرسي (جيفارا) قاب قوسين او ادنى من رقاب بعض المارقين، والمطرب العراقي (داخل حسن) يعتلي مسرحاً فوق نجمة. وفي جانب آخر من المشهد تقف (سيارة التاكسي) عند مداخل الثقوب السوداء. 
وما لم يره (نيتشه) ايضاً (حقيقة حصان) خيول مسرجة صافات ومجنحات تؤكد الشروع بالرحيل والمغادرة، وفي صفحة أخرى من فنتازيا شوبار رسم غيمة على شكل (صوفة) تغزلها امرأة شعبية تصنع منها بساطاً على الارض، هذا وحده يكفي لشرح ابعاد ما يرنو اليه وما تخبئه لنا مخيلته الخصبة الولودة. ليس الخيال بمعناه المجرد الذي يمتلكه وحده انما يستعير ذاكرة الاشياء الكامنة في عناصره المنتقاة وتوظيفها بفعل آدمي يليق بأنسنة أشكاله.
ومع اختلاف وتباين تلك الرؤى تغير على شاكلتها الطلاء وأصبحت قوة الالوان رهينة بقوة التعبير ورشاقة العنصر 
العامل. 
وغرابة الاجواء المهيمنة المماثلة لسلوكية السورياليين ممن اظهروا في رسوماتهم اللاوعي كفصول خلاقة في الفن تختص بالذوق وحده. وعليه أضحت الصورة في لوحة شوبار بمطلقية لا تدل إلا على الوهم الذي اصطنعته له مخيلته، فهي تسترجع مفهوم المحاكاة الافلاطونية، ولا تنتمي الى ما يسميه (بوردريارد) الافراط بالواقع واللا واقع، وانما هي (مدونة تعبيرية) تضمنت واقعاً لونياً تخيلياً وايهامياً مجتزئاً من رغبته الملحة في التحول والمغادرة بأسلوب او (بأساليب) تتخطى حدود الرد الى مستوى الارتقاء بالتقنيات التلقائية التي تختصر وتختزل العشوائيات اللونية والمساحية في بنيته الشكلية وتؤكد التأثيرات البصرية المصاحبة لجماليات الصورة. 
شوبار معلم مختلف، تعقب روح الفن بالتقنيات الراهنة، استطاع ان يميز بين الترف المغلف بالرتوش وبين الصفقة الجمالية تامة الوضوح. 
أشكل شوبار في سعيه التعليمي هذا على بعض الفنانين من مجايليه او ممن سبقوهم التمادي والغطرسة في محاكاة مدارس الفن الاوروبي والمناكفات من بعض السوح الالكترونية، فارتبطت عناصره السيمائية والايقونية بالأصالة التي تكشف عن المحيط الدائر بالتمثيل المكاني والاطر الزمانية المرتبطة بمنشآته. كما ان الفنان عزز تمسكه بالفكرة القائمة على اساس ان العالم يولد من فوضى. 
ولا بد للعلاقات والاشكال ان تبنى وان تنشأ على ارضية تتوحد فوق قشرتها 
الاشكال وتجسد وعيه وانطباعاته واسقاط أنموذجه الاعتقادي على الواقع المشروط بالانطلاقية الزمنية وعصرنة السرعة وتمثيل المكان. 
احالت هذه القاعدة العاطفية العريضة اعمال شوبار صوب الجدية والاستبصار والسعي لكشف مظاهر الغموض والضبابية ومعالجتها بالتفكيك والتركيب ومنح الاشكال قيمتها الرمزية التي تعبر عن حركة الزمان والشوط المستقطع في تصفيف وترتيب العناصر الداخلة والعناصر المزاحة من فاتورة رحلته الابداعية التخيلية المستمدة من مناخه النفسي ومن ذاته الفطنة بمحتوياتها المتمثلة بالعزلة، وبالغربة الداخلية، وبالرغبة بالإفصاح عن معنى التناقض والاختلاف والتعبير عن حقيقة تماهي العلاقة بين البنية الفوقية للخامة وبين البنية الداخلية المتمثلة بالاستمتاع والاستماع الى كلمة الذات.