صناعة الامتياز

ثقافة 2021/06/14
...

 ياسين طه حافظ 
لنا أمثلة من الكتاب كما من الشعراء والفنانين ممن أسسوا حضوراً نال إعجاباً كبيراً وتمتعوا بخصوصية الاحترام. وعلى ما بينهم من اختلاف في نوع الكتابة ونوع الاهمية، هم شهود نقد في تاريخ الأدب او تاريخ الفن. فمع ذكرهم يحضر ذكر الإبداع والتميز في الأسلوب وفي الانشغال الفكري والموقف من الحياة والإنسان. 
صحيح لنا تعاطفنا واهتمامنا بهذا أكبر من غيره، لكن كلا منهم مهم وله ما نكبره ونقدره من أجله. وكلهم صنعوا تقدماً او تجديداً. 
ما قد يخفي امتياز بعضهم هو جهلنا بوجوه من إبداعهم. أي هو نقص معرفتنا بهم. فنحن مثلاً نعرف هيجو من روايته «البؤساء» ونعرفه شيخاً ملتحياً، ولكننا لا نعرفه مفكراً ولا شاعراً ولا سياسياً منفياً. نحن لا نعرف كتبه الاخرى في الفلسفة والمجتمع والاخلاق ونجهل سيرته، سلوكا إنسانياً وحضوراً ثقافيا مهماً في ثقافة بلده وفي الثقافة الاوروبية في زمنه. نحن إذن في حال نكون فيها بعيدين عن معرفته وقريبين لانطباعاتنا. المتابعة والإحاطة شرطا معرفة ومعاً هما أساس لأي حكم على ما نسمع ونقرأ أو نرى. 
ييتس، وليم بتلرييتس، حائز نوبل 1928 نختلف على صفات مجده ونتفق على امتيازه. هو علم نفسه وكما يقول الانكليز schooled himself  ، والمقصود بهذا أن مصادر ثقافته ليست الإرث الاكاديمي ولكن معه إيرلندا الأم والوطن بطبيعتها وأساطيرها ومتاعبها السياسية. وييتس اهتم من الموضوعات بما لا يزول! وهذا يشير الى الترفع الاول، الى حضور الأزلي والمعنى. وهذا وراءه ايرلندا الخصيبة، ثراؤها بالأساطير والخبرات الانسانية الصعبة والسهلة الجديدة والقديمة جداً. 
اما إذا اهتم بشاعر او كاتب، فنادراً ما نجد لذلك اثراً في شعره، وكأنه يشعر وبقناعة بأن مملكته له وحده وعالمه ليس عالم غيره أيضاً. فبين الكبار كِبرهُ أسمى نوعا!، مثلاً كتب عن سويفت وبورك  Burke وجولد سميث وهم مبدعون بارزون يشار لهم في الدراسات والتقويم. وييتس ترجم لسويفت الى الانكليزية الحديثة مرثيته أو شاهدته epitaph وكتب مسرحية استحضر فيها روحه. ولكن عمليه هذين غير مدينين بشيء ولو قليل لسويفت ولا لسواه. هو وجد موضوعا وكتب فيه. واذا ما كتب أدبا او جاء بصور من “تراثه” اليوناني القديم، فتأتي صورٌ أخرى تماماً مقنعة وبديعة. كما ورد حين ذكر «ليدا» في قصيدته «ليدا وذكَر البجع» (إحدى القصائد التي ترجمتها له في كتابي «الغضب والنبوءة» المدى 2018) وقصيدته النائمون السبعة Seven Sleepers.
هو في أعماله هذه وسواها يختلف عن صاحب الامتياز الآخر ت. س. إليوت. إليوت يذكر كتّاباً يجعلهم بعضاً من نفسه. إليوت ناقد عظيم ولكن منجزه النقدي لا يوازي منجزه الشعري، مع ان الواحد منهما وجه للثاني. وبهذا إليوت ينتمي الى التقليد الادبي بينما ينتمي ييتس الى نفسه. 
من جانب آخر، لييتس في أحكامه ونظره يهمه جوهر الشعر. لذلك، وبالرغم من كل “دعايته” بوصفه ممثلاً عن الروائيين والمسرحيين الإيرلنديين، هو في كتاباته عنهم، لم يشجع أحدا على قراءتهم!، وذلك لأنهم يفتقدون ما يهتم به. وهذا هو السبب نفسه لوصفه إليوت بأنه هجاء Satrist ذلك لأن إليوت هجا الحضارة الحديثة وسيئات الحياة المدنية، واشار الى السوء في أقدس الأمكنة. فليس وراء وصفه كراهة بل دقة في التشخيص. وإلّا فإليوت يصف ييتس بأنه «أكبر شاعر في عصرنا..». 
كلمة «هجاء» هنا تقابل «ناقد اجتماعي»، ولا.إليوت اهتم بصوريته. بمدرسته الشعرية الحديثة ولغة الشعر الجديدة ولهجة الخطاب، فقدم أربعاء الرماد وقدم الأرض اليباب وقدم نفسه: إليوت!، ييتس أيضاً اهتم بتأسيس طريقته وبانتقاء موضوعاته وجوهرية الشعر في الموضوعات التي كتب فيها. 
فكشف عن الحقيقة الأبعد للتاريخ والشخصية الانسانية والتحولات الحضارية لاسيما من خلال كتابه – الذي أراه مفسرا لموجزه – وهو كتابه الرؤيا Vision حيث أوجه القمر الثمانية والعشرون وتتابع الحركة الاستدارية وجهاً يعقب وجهاً حتى الضمور او الاختفاء. ومن الاساطير الاوروبية والحياة انتبه لما له علاقة بالكون والتحولات الانسانية فيه وحضور الجمال وغيابه.
إليوت القدير على التعبير الموجز والصارم والدقيق كشف سيئات وسوء ضمير الحضارة الحديثة وترك الاسطوري الغائم الى المتجسد، الذي نراه ونعايشه. إليوت تراثه عصره!. 
وليس مثلبة أن جيمس جويس صاحب الامتياز الروائي يرى ان ييتس ينتمي لعصر مضى ويهتم بما لم تعد له قيمة. هو انتقاد نمط وليس انتقاد شعر. ليس في الاحكام التي قيلت سوء ولكن فيها إفهام للشعر. لكل امتيازه وثقافته وآراؤه في حقيقة الشعر أو جوهر الادب.
ولنا في العربية ومن شعرنا الحديث مثالان يقاربانهما مع فارق المستوى الفني والثقافي، هما السياب، بدر والبياتي، عبد الوهاب. فالسياب ببذخه اللفظي وطاقته الفوارة وتمكنه النظمي وثرائه اللغوي ورهافة الرومانس العالية، له امتيازه في التجديد. 
تجديد مضمون القصيدة والتحولات المهمة في شكل القصيدة العربية الحديثة. وللبياتي، بقاموسه اللغوي المحدود وقدرته النظمية المحدودة أيضا، استطاع ان يكشف عن قدرة فائقة ونافذة لالتقاط الدلالة الحديثة مما يقرأ ويرى. فمن قراءاته ومشاهداته ومن الفيلم واللوحة كما من الرواية والشعر، استطاع صناعة قصيد متميز. وسواء كان الملتقَط قولاً أو عنوان فيلم أو عنوان كتاب أو عبارة شعرية هو يلتقط هذه ويمنحها حياة جديدة ويضعها في بناء النص بعد استيحائها استيحاءً خاصاً لما يهمه حتى كانت جل نصوصه سلسلة أو مجموعة “التقاطات”، كلها تعمل بإشعاع شخصي ودلالات يوظفها لاتجاه القصيدة الموضوعي أو لموضوعها العام. فتشع جديدة ضمن الأسى الانساني الذي يكاد يكون مشتركاً في جميع القصائد.
فكلٌّ من الراحلين صنع امتيازه، بدر 
وعبد الوهاب، وان ظلا متباعدين في فهم الشعر وفي مدى القرب من جوهر القصيدة.