ذاكرة الكهوف

ثقافة 2021/06/15
...

 ناجح المعموري
ألمح بول ريكور إلى العلاقة الكامنة والواضحة أنثروبولوجيا بين المعرفة الأسطورية التي تفضي نحو فلسفة ليست خاصة بالأسطورة بقدر ما لها أصول فلسفية خاصة بالرموز، وفي ضوء هذا الرأي المهم بالإمكان الاستفادة منه والإشارة إلى متروكات الكهوف التي خلفتها الرسوم الكهفية والفنون المبكرة الأخرى هي محاكاة للطبيعة وما هو مرئي أنها وسيلة سحرية لاستمضاء الخصم من أجل التمكن منه،
هذا ما أكد عليه جيمس فريزر وكل العاملين في الحقل الأنثوغرافي/ الأنثروبولوجي وأعتقد بأنها تعبير عن تجليات خفية داخل الإنسان عن بروق المقدس الذي لم يكن مثل مقدساتنا الآن، لكنه منتج لعلاقة ما مع الإنسان وكان لتلك الرسوم تأثيرها على المكان ومنحته شيئاً من القداسة التي لم يعقل بها أحد من الباحثين. هذا الخطف المقدس هو الذي كان ممثلاً لمركز العالم المتمثل بالكهف أو المغارة، إنه سرة الدين الأول بالنسبة للجماعات الأولى، هي منظومات مركزية وعلامات لم تكن من فراغ، بل هي وليد المحيط الخارجي والعلاقات الإنسانية المشتركة بين الجماعات، وحسب قول نيتشه فإن الرموز أثر للمجتمع وليس العكس، وهذا ما أشارت له الدراسات مؤخراً وإذا اتفقنا مع الرأي القائل بسحرية الرسوم لا بد وأن نتفق حول الطبيعة الدينية الخاصة بها. أي بمعنى وجود الأصول الثقافية والدينية وليست الفنية الخالصة. 
وكما قال ارنولد هاوزر لم تكن لها وظائف جمالية من حيث المقصد الواعي ((لأن الحيوانات كثيراً ما كانت تمثل في هذه الصور وقد اخترقتها الرماح أو السهام أو كانت تسدد إليها بالفعل مثل الأسلحة بعد انتهاء العمل، ولا شك كان هذا مثلاً للأنموذج يحل محل قتل الأصل، والدليل الآخر على الوظيفة السحرية، هو أن العدد الكبير من الصور البشرية المتنكرة على هيئة حيوانات كانت تؤدي رقصات سحرية محاكية/ ارنولد هاوزر/ الفن المتجمع/ دار الكاتب العربي/ القاهرة).
الكهف مكان مقدس تأهل بعد وجود هذه الجماعات التي نقلت محيطها الخارجي للداخل وأضفت على الأشياء صفة السيطرة والتمكن منها، هذه هي التصورات السحرية التي جعلت من المكان ومحفوظاته مقدساً، ولأن المكان حاضر وشواهده على الحضور هي الرسوم والأشياء الموجودة في الوجود حسب رأي هايدجر، فإن الزمان متجاور مع المكان وإن كان الإنسان البدئي لا يفهم شيئاً عن ثنائية المكان والزمان. وأعتقد بأن الدرس الأول لم يكن بإمكانه وعي الزمان إلا من خلال الظواهر المرتبطة بالمشاعر والتصورات، مثل الصباح/ الظهر/ المساء، أوقات تحفزه لممارسة وظائفه.
أنا أعتقد بأن الجداريات ذات وظيفة صبيانية للإنسان وهذا واحد من الأسباب الكامنة وراء إنتاجها والإبقاء على وجودها مستمراً وسط أماكن كانت أشبه بالمتحفية.
إن الصور الجدارية تضعنا في حالة مشحونة بعاطفة فائقة، تجعلنا ننظر إليها بعين القداسة.. وبعيداً عن كهف لاسكو الذي يوليه البعض أهمية خاصة، فإن كهوف الصور الجدارية تشارك بدرجات متفاوتة في هذا الجو الجليل الذي يغمر المكان/ فراس السواح/ سبق ذكره، كما أن الرسوم سجلت لنا كثيراً من تصورات إنسان ذلك الزمان وقد احتوت على قيم كبيرة تحاول التعبير عنها، وإن هذه القيم هي قيم روحية /دينية تتصل بمعتقدات ذلك العصر/ فراس السواح. 
ارتبطت الجبال والكهوف والمغاور بالتشكلات الدينية العديدة التي عرفتها حضارات الشرق، وهي تنطوي على دلالة الخلق الجديد أو الولادة الرمزية لما هو جديد في فضاءات المقدس، ولا بد من التأكيد على الخصائص ذات الوظيفة السحرية/ الدينية، وما تضمنته جدران الكهوف كاف للإشارة إلى التكونات الجنينية المفضية إلى مقدس أكبر، متعدد الأنظمة.
الدخول إلى الكهف عودة للرحم الأمومي، أنه موات رمزي ومغادرته انبعاث، هذا التكرر المستمر إفضاء للأسطورة الأولى وهي – الرسوم – مشحونات للأساطير الأولى، لأنها مكتنزة برمزيات وعلامات لم تحط من فضاء خارجي، ولم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج مخيلة مرتبطة مع محيط وعلاقات إنسانية مشتركة، ومثلما قال نيتشه فإن الرموز /الرسوم هي آثار للمجتمع، وهذا ما أشارت له الدراسات الحديثة الخاصة بالخيال. ولقد كان لهذا الفن الكهفي المعروف في أوروبا تأثيرات كبيرة وصادمة على الذين اطلعوا عليه وانشغلوا به وأعدوا كثيراً من الدراسات ولعل أهمهم آني بروبل هو الذي فتح أمام الفن كل هذا الانشغال الفني والعلمي ولم يكن سهلاً هذا الاهتمام بل في منتهى الصعوبة والتعقيد، على الرغم مما قدمته الأثنوغرافية والأنثروبولوجيا، لأن البدايات عادة ما تكون أكثر غموضاً من النهايات كما قال جورج كوبلر.
إن الرسوم الكرافتية هي التي ما زال الإنسان معتمداً عليها.. وأخيراً اعتقد بأن هايدجر قد قدم تصوراً فلسفياً على الموجودات والأشياء وبالإمكان توظيف رأيه حول الرسوم الكهفية التي هي في الحقيقة من أصول الأعمال الفنية التي تنفتح أكثر وتغادر ضيق أفقها، وما يساعد على تحويل هذه المأثورات الإنسانية إلى مراكز لا يستطيع تاريخ الفن التنكر لها أو إغفالها، لأن الأشياء التي حفظتها الكهوف هي أشياء، مثلما هي قاعدة تحتية للحظة التي يكون فيها التشيؤ أي الشيء بوصفه حاملاً لصفاته وسماته كما قال هايدجر. وهذا لا يتصل فقط بالشيء الواقعي المجرد فحسب، وإنما يتصل بكل موجود، ولذلك لا يمكن بمساعدته أبداً عزل الموجود الشيء عن الموجود غير الشيء والإقامة اليقظة في محيط الأشياء ستخبرنا قبل أن يعتريها أي تردد/ مارتن هايدغر/ أصل العمل الفني/ ت: أبو الغيد دودو/ منشورات الاختلاف/ الجزائر.
ولذا فإن هايدجر قد حسم الموقف حول أصول الفن عندما أكد على الشيء وما هو هذا وكيف هو؟، وعودة إلى العلاقة الواضحة بين الشيء كموجود وبين العلاقة مع الآخر، وهو الوجود الذي تأسس عليه المفهوم الهايدجري الخاص بفلسفته حول الكائن/ الكينونة، ولأن اللغة هي بيت الوجود، فإن الرسوم الكهفية التي هي شكل تدويني وهذا أمر لا اختلاف حوله، فإن هذه اللغة كانت منذ الأزل بيتاً للكينونة، والسؤال هل تحمل هذه الرسوم سمات خاصة تحدد نوعاً من التوجهات الخاصة بالجماعات البشرية؟، نعم والدليل على ذلك المشتركات الفنية/ الأشكال والمفاهيم الموحدة بين الرسوم الموجودة في كهوف منطقة (الفرانكو الممتدة بين جنوب فرنسا وشمال اسبانيا المنطقة التقليدية لكهوف الرسوم الجدارية، فهي أغزر المناطق بهذه الكهوف، كما أن الرسوم هنا تشكل مجموعة متجانسة في روحها وأسلوبها العام، فضلا عن قدمها واحتوائها على أعرق نماذج فنون الإنسان العاقل، وقد تم الكشف عن مئة كهف أو ما يزيد، سواء في المنطقة ذاتها أم في امتدادها داخل اسبانيا وفرنسا وجنوب إيطاليا وما يلفت النظر في الكهوف الكانتربرية هو تشابه تكونها الطبيعي وهيئاتها الداخلية وطريقة توزيع الرسوم في ردهاتها وأروقتها. فجميع هذه الكهوف يمتد إلى أعماق موغلة في باطن الأرض، قد تصل إلى الميل في بعض الأحيان أو تزيد/ فراس السواح/ سبق ذكره.
قال هايدجر: الفنان هو الفن الأصل هو نسب الجوهر الذي يكون فيه وجود الموجود. ما هو الفن إننا نبحث عن جوهره في العمل الفني الحقيقي. لقد تحددت حقيقة العمل الفني على أساس ذلك الذي يعمل عمله في الفن أي حدوث الحقيقة.
أعطى هايدجر في هذا الرأي قيمة كبيرة للفن وتعامل معه بوصفه مجموعة من الحقائق، وكلام هايدجر عام اشتمل على إشارة صريحة للفن وعمل الفنان وتعامل مع أصل العمل الفني والفنان وأكد عليهما لأنهما مرتبطان معاً بالفن، والمفهوم العام للفن انفتح كثيراً لاحتضان الأصل والفنان معاً وفي لحظة واحدة.
ولا يمكن التعامل مع الرسوم الجدارية والنحتية التي أنتجتها اللحظات الأولى بوصفها نتاجاً لفنان واحد، وإنما هي تعبير عن هموم وأحلام الجماعات كلها. وهي – الرسوم – مشتركات في التصور والإنتاج من هنا كان التماثل في الخصائص الفنية والإبداعية وهي تنطوي على (موقف ذاتي من العالم، كما هو الحال في مجتمعاتنا الحديثة) والفن البدائي، عبارة عن لغة اجتماعية يفهمها الجميع ويتواصلون من خلالها، والأعمال الفنية تحمل على الدوام قيماً دلالية تتعدى حدود صانعها لتغدو شاهداً على حقبة وعصر/ فراس
السواح.