كتابة المدن

ثقافة 2021/06/16
...

لؤي حمزة عبّاس
 
تشكّل كتابة المدن جانباً مهماً من الكتابة العربية الراهنة، لما يحمله هذا النوع من ثراء وما تميزه من امكانات تعبيرية لا تجعله محدّداً بما يستعيد من أمكنة فحسب، بل يتعدى ذلك ليمثل بعضاً من سيرة الكاتب وهو يتصدى لكتابة سيرة مدينته، فالمكان يحافظ على طبيعته حيّزاً للحياة وحاضن تحولاتها، وذلك ما تحقق مع كتاب عبد الرحمن منيف (سيرة مدينة، عمان في الأربعينات)، وهو يعمل على استعادة صورة مدينته (أو سيرتها) بناءً على ما رآه في مراحل حياته المبكرة، وإذا كان بعض الكتاب قد اختاروا الكتابة عن المدينة وتحولاتها بناءً على تجاربهم في مراحل مختلفة من حياتهم، فإن كتاباً آخرين اختاروا سبلا أخرى للكتابة عن مدنهم ورصد مساراتها تعبيراً عن ارتباطهم بها، مثل الروائي المصري مكاوي سعيد الذي لم يقف عند ما كتب عن القاهرة في روايتيه (تغريدة البجعة) و (فئران السفينة)، لما تتطلبه الكتابة الروائية من محددات نوعية تخضع الأماكن والشخصيات والحوادث فيها لاشتراطات الكتابة الروائية وأعرافها، فقد عمل في كتابه (القاهرة وما فيها) على قراءة سيرة مدينته من خلال أرشيفها مقدماً القاهرة عبر مجموعة من الحكايات، والأمكنة،
والأزمنة.
 كما يشير العنوان الثانوي للكتاب، لتكون مرويات المدينة، وبعضه طواه النسيان، أبواباً يعمل الكاتب على فتحها لتأمل جوانب بعيدة من حياة المدينة التي عشق «أماكنها وتاريخها وأرواح ساكنيها الراحلين التي تجوب طرقها وأسبلتها كل ليلة»، والكتاب، بحسب تصور مؤلفه، «لا يتناول وقائع تاريخية بعينها ولا حوادث سارة أو مفجعة بذاتها، إنما هو يجري كمياه المطر كيفما اتفق، بما يحويه من مقالات وتدوينات الكتب والأخبار، وما كتب الأجانب والمصريون والمتمصرون عن القاهرة في عهد الفاطميين وعن القاهرة الخديوية.. وصولا إلى عصرنا الحالي»، وهو بذلك يستبدل الذاكرة الفردية بالأرشيف الجمعي، فيستعيد مدينته بما رآه الآخرون وما دونوه من تاريخها مقصياً الاعتماد على الذاكرة لما يتضمنه من أخطار، فهي «مهما حاول الانسان الدقة والأمانة، خداعة، شديدة المكر، لأنها تقول الأشياء التي تعنيها، ما تعتبره أكثر أهمية، ضمن مقاييسها الخاصة»، فمن خلال الذاكرة وبوساطتها تحقق كتابة المدن، من منظور عبد الرحمن منيف، حضورها الشخصي، وتحقق تماهيها مع سيرة كاتبها، وذلك لا يعني أن تحافظ كتابة الذاكرة على صدقيتها وتؤثر وثائقيتها، منزهة عن السقطات والهفوات، سقطات الذاكرة التي يهددها النسيان، فإن بعض الوقائع التي ترد في أدبيات المدن «ربما لم تحصل بهذا الشكل
 تماماً». 
كما يقول منيف، «لكن هكذا بدت لمن رآها، أو هكذا استقرت في الذاكرة، من دون أن تكون هناك نية أو رغبة بتحويرها أو إعادة تشكيلها في نسق مختلف»، لكن للخيال دوره في ما يعيش الكاتب ويكتب، وهو الذي يعمل على سد ثغرات الذاكرة في سعيها لإعادة إنتاج ما مرّ وانقضى في الزمان.