رائحةُ الخبز

ثقافة 2021/06/16
...

 محمد صابر عبيد
تفوح رائحة الخبز من فوهة التنور الطينيّ الذي يحتل حيّزاً محدوداً ومهملا في الفضاء الطلق؛ فيملأ عبقه الأنوفَ قبل الأفواه باحتمال الشبع وحساسيّته وطعمه الشمي الفادح، هكذا كانت رائحة الخبز الريفيّ تنطلق بحرية عظيمة وتشظ رهيبٍ بلا حدود ولا حواجز ولا موانع ولا مصدات، يوم كانت الحنطة الآتية من الحقول المترامية مباشرة إلى {المطحنة} تتلألأ حبّاتها وتتلاصف وتشرق مثل أملٍ راقصٍ، كان ثمة نوع من الحنطة يسمى عندنا في ريف الموصل {صابر بيك} يعد الأعلى في قائمة الأنواع المعروفة والمتداولة، وحين كنا نسأل عن سرّ الرغيف الشاسع المدلل كان الجواب يأتي دائماً: لأن طحينَه من حنطة الـ {صابر بيك}.
تعود هذه التسمية بالتأكيد نسبة إلى شخص يدعى "صابر" – ليس أبي طبعاً- هو من جلب هذا النوع إلى مزارعنا في هذه المنطقة، وظلّ يسمّى باسمه حتّى غابت مزارع الحنطة كما كنّا نعرفها كما غابت كلّ الأشياء الجميلة الساحرة من وجودنا المرتجَل، وصارت السنابل في تموّجها الأخضر والأصفر بعد ذلك أكثر حياءً وانكساراً وتضاؤلاً مما يجب؛ بحيث ترتفع بالكاد عن سطح الأرض، بعد أن كان الرجل بقامته المديدة يدخل الحقل فلا يُرى من طول السنابل وهي تعانق السماء، واختفتْ إثر ذلك تلك الرائحة الفريدة إلى الأبد.
تحتوي هذه الرائحة الزكيّة على حنينٍ خفيّ يستحيل استبعاده من فضاء الذاكرة الإنسانيّة الحالمة، وهو ما دعا الشاعر محمود درويش إلى القول: "أحنّ إلى خبز أمّي"، حين يكون خبز الأمّ المرتبط بذاكرة الطفولة هو "الخبز الأمّ" والخبز الوحيد الذي تظلّ رائحته نفّاذةً لا تزول، رائحة مكتظّة بحمولة التاريخ والجغرافيا والحساسيّة 
والرؤية والقيمة الكبرى في الحياة بمعنى لا يتوقّف عن النموّ والتطوّر والإدهاش، رائحة تحكي قصّة الطفولة والبراءة والعفويّة على أنغام موسيقى الأرض التي لم تكن بحاجة لتعريفٍ ما كي تُفهَم، والفرح الذي لم يكن بحاجة لأسبابٍ معيّنةٍ كي يحدث، فيكفي أن تنتشر في الأنحاء رائحة الخبز تلك كي يحضر كلّ ما هو جميل وساحر ونقيّ وأصيل وحرّ بلا مقدّمات ولا شروح طويلة لما لا يمكن شرحه.
لا شيء مثل الرائحة بوسعه أن يُدخِلَ السرور إلى النفس برشاقةٍ وسهولةٍ ويُسرٍ وشاعريّةٍ، لذا يبدأ محمود درويش برائحة الخبز في قصيدته وتلتحق بها مباشرة رائحة القهوة، فتهيمن رائحة الخبز على حساسيّة الشمّ البشريّة لعلاقتها بفكرة الشبع التي تقضي على غائلة الجوع الكافر، وفي الرائحة يقطع من يشمّ رائحة الخبز بامتلاء نصفَ الطريق نحو الحصول على حالة الشبع الكامل، حين يحصل التناغم المطلوب بين حاسة الشمّ وحاسة الذوق، بين الأنف والفم، إذ هي رائحة لا تشبهها رائحة أخرى؛ تتغلغل في فضاء الإنسان الشمّيّ فتُشعرهُ بسعادة الشبع وبهجة الامتلاء، قبل أن يتمكّن الفم من تذوّق طعم الخبز، وقد فعلت الرائحة فعلها حتّى تصل بحالة التذوّق إلى طبقة الانتعاش القصوى، لا رائحة في الكون كلّه تشبه رائحة الخبز وهي تفوح من أرغفة تتوهّج باستدارةٍ ونضجٍ ولونٍ وإشعاعٍ تشعل رغبة الحياة في خلايا 
الجسد.
يعيدنا الحديث عن الرائحة إلى الرواية الموسومة "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم وقد صدرت بطبعتها الأولى عام 1966م، بكلّ ما أثارته من مشكلات قادت إلى مصادرة النسخ المتواضعة من هذه الطبعة قبل أن تطبع طبعات كثيرة لاحقة وتترجم إلى لغات أخرى، لكنّ صنع الله يقول بأنّه أهدى نسخة من الرواية إلى يحيى حقي رئيس تحرير مجلة "المجلّة" آنذاك وحين اطّلع على العنوان "تلك الرائحة" قال مجاملاَ: "إنّ الغرفة أوشكت أن تعبق بالعبير الزكي الذي يفوح منها"، فضلاً على أنّ عنوانها قبل أن يَطّلع على مخطوطتها يوسف إدريس كان طويلا "تلك الرائحة التي كذا وكذا..." تمتدّ سطراً كاملاً، حتّى هتف يوسف إدريس فوراً "بعد الرائحة لا يجب أن يكون شيء" فكان العنوان "تلك الرائحة" فحسب.
 ترى أيّة حساسيّة عنوانيّة مرهفة يمتلكها يوسف إدريس وهو يدرك قيمة "الرائحة" في عتبة العنوان بما لا تسمح لمفردة واحدة أن تعقبها، فكان العنوان "تلك الرائحة" يمثّل نصفَ مَجدِ الرواية؛ إذ يكفي حضور الرائحة بوساطة الإشارة "تلك" كي يثير عبقها كلّ هذا المعنى القادر على أن يغمر الكلمات والفضاء بسيميائها الخصب، وقد أثارت ما أثارت من إشكالات نقلتْ صاحبها صنع الله إبراهيم إلى دائرة الضوء السرديّ وضاعفت من أهميّته الروائيّة.
اعطني نفحةً من رائحة خبز أمّي كي أعترف لك بكلّ ما عرفته من لذائذ مشتهاة في حياتي، رائحة تحرّض على الاستذكار والتطلّع والرغبة والكتابة بلا حدود، رائحة لها ضوء يكتسح كلّ شيء وصولاً إلى شواطئ الأنوف الممتدّة على سواحل الانتظار، رائحة هي أمّ الروائح كلّها وسيّدتها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب ومن الأعلى إلى الأسفل. ما هذه الرائحة الفذّة التي لا تغيب ولا تتقهقر ولا تنسحب ولا تتراجع ولا تموت، رائحة حيّة تُوقفُ الذاكرةَ عند محطّة بعينها من محطّات الطفولة فتثير جذوتَها لتتفجّر ينابيع عطرها بلا حذرٍ أو احتراسٍ، رائحة تعبر من فوق النظريات والمفاهيم والمصطلحات والتعريفات كي تختزن ما تملك من الدلالات في نقطتي ضوءٍ لا ثالثة لهما "رائحة الخبز".