الحكمة او الجنون سبيلا الى المعنى في فلسفة انطوان ارتو الشعريَّة

ثقافة 2021/06/17
...

  محمد يونس
 
التفكير الشعري بالمقلوب – يكون النضج الشعري التام اذا صاحبته عاطفة راجحة ليس يفسر ما هو مدرك، بل يسعى لتبرير ما هو غير مدرك، والشعر بعد التصعيد الرومانسي الذي بلغ قمته هدف الى قلب تلك الرومانسية ليكشف عن معنى مناقض لروحها المرحة، وقد ساعدت الظروف المحيطة في كسر القوالب والسعي الى التجديد والتحديث المعرفي، وكان دور الريادة الشعرية في بداية ومستهل القرن العشرين من جهة السياق انكليزي ومن جهة المضمون فرنسي، وقد اتجه كل فريق الى سبيل فني يرضاه ويقنع به، فسبيل اليوت ما حافظ كليا على الاصول الشعرية الجديدة التي ورثها بل جدد في بنية اللغة الشعرية، وما قابله من بعد مالارميه اهتموا بوجه عام للشعر منهم، والغير اهتم بالمعنى الخاص، حيث جهة اتصلت بالمجتمع وجهة اتصلت بالفن، وكان للجهة المتصلة بالفن أن يرث فيها انطوان ارتو ما لا يمكن لاحد القبول به، لكن رضا ارتو كان مختلفا ومبتعدا كثيرا في تفكيره ومنظوره الشعري، وما تسنى لأنطوان ارتو غير كسر القوالب كليا وقلب الرومانسية ليصل هدفه النظري للشاعر، وفي المسرح ايضا قد ذهب الى ذات السبيل، في تحول المسرح الى العنف المعنوي، وصار ادراك ارتو للشعر كمن يسعى الى حرث الشعر وكأنه ذلك البحر الجمالي.
لقد اهتم انطوان ارتو ببنية اللغة التعبيرية والرمزية في قصائده، وقد شحن اللغة بطاقة انفعالية نفسيا حادة حسب توصيفات اللغة الشعرية، واذا اتاح لنفسه ذلك السمو العقلي في جمله الشعرية المتقدة انفعالا، فهناك من تجرأ على الفن الجدير ووصفه بالجنون، في ما كان انطوان ارتو كشاعر حقيقي استثنائي كما نطرح منتجا للحرية وليس مكتسبا لها، وحريته بلا توصيف، وفي مقطع شعري يؤكد لنا ارتو رسالته الشعرية هي وعي حتى ولو خالف نفسه، ومثل المعرفة العليا وهي الجنون.
(لست بحاجة الى غذاء أكثر مما/ أنا بحاجة الى نوع من الوعي البسيط/ هذه العقدة للحياة حيث يتمسّك ارسال الفكر/ عقدة اختناق مركزيّة/ ببساطة أضع نفسي على حقيقة واضحة/ أي أنها تمكث على حدّ واحد).
يشكل انطوان ارتو ظاهرة شعرية فعلا متفردة، وسياقات الحياة جارت عليه وأودع المصحة، فالسياقات ترفض الاختلاف والتفرد، وقلب الشعر من رسالة جديرة للحياة الى تجديد حر لكن لا يمتثل للمعنى العام.
ما الذي يعني إذا واجه الشعر الميتافيزيقا وليس في حدود القناع بل في بلوغ حد الاعتقاد، وانطوان ارتو يتجاوزه ذاته الشعرية الى ذات تصاعدت شاقوليا لبلوغ الانا العليا، والنزوع عن الحقائق نحو التوصيفات الحرة، والتي تجعل الشاعر مجرة وليس ذاتا ولا حتى رمزا اشاريا، ويكون الشاعر علامة توازي علامة النص وكما في المقطع الذي فيه كان الشعر سطريا.
أن أضع نفسي بمواجهة الميتافيزيقا التي صنعتها بارتهان مع هذا العدم الذي أنا أحمله.. هذا الألم المغروس فيّ مثل زاوية، في قلب واقعي الأكثر صفاء، في ذلك الموضع للحساسية حيث عالما الجسد والفكر يلتقيان، تعلمت أن أتسلى بها بفعل الإيحاء.. في فضاء تلك الدقيقة التي لها دوام التماعة كذبة، أصنع فكرة فرار، أرمي بنفسي في طريق خاطئ يحدّده دمي.
من العلامة الى الالتباس – يجتهد كثيرا انطوان ارتو في رسالته الشعرية الملتبسة المعنى في الاعراف الشعرية العامة التي تطورت فيها الذائقة الشعرية من مفهوم في الافق العام للشعر الى قرين له، لكن ارتو عمق مفهومه بحرية عامة، ولم يلتفت للسياقات العامة، وتطور جنس العلامة في مفهومه الشعري من أفق سيميائي يعكس البعد الاجتماعي الى أفق مفتوح وبه حرية العقل الشعري بلا قيود، واجتهاد ارتو هو رسالة لكن ليس في التوصيف العام، بل قدر لها أن تكون ضحية للأعراف لكن اليوم نلمس اثرها في الخطاب الشعري، وذلك المقطع الحساس يملك مصداقية روحية تدل على الفكرة.
(أغمض عيني ذكائي، وأترك ما هو غير مصاغ يتكلم، وأمنح نفسي وهم نظام قد تضيع عني عباراته/ غير انه من دقيقة الخطأ تلك لا يتبقى لي غير شعور بأنني اختطفت من المجهول شيئا واقعيّا/ أنا أؤمن بالمؤامرات العفويّة/ في الطرقات التي يجرني إليها دمي من غير المكمن ألّا أكتشف حقيقة ذات يوم/ الشلل يداهمني ويمنعني أكثر فأكثر من أن أدور حول نفسي/ لم تعد لي نقطة ارتكاز، ولا قاعدة../ أبحث عن نفسي في ما لا أدري).
أن انطوان ارتو المولود 1896 بمرسيليا لم يتمكن من تجاوز العام الثاني والخمسين من عمره فمات مغضوبا عليه ومرجوما بحجر التخلف الفكري وموصوما بالجنون، قد قدم في الشعر والمسرح تجربة فريدة واستثنائية، واعتقد يريد الشاعر ببدلة رسمية تدل عليه كشخص أكثر ما تدل عليه كفنان.