نازك الملائكة.. المتن الشعريّ الأنثويّ

ثقافة 2021/06/20
...

 محمد صابر عبيد
يعد صوت المرأة الشاعرة في الخطاب الشعري العربي الحديث أوضح كثيراً من عصور الشعرية العربية القديمة برمتـها، إذ بدأت المرأة تأخذ حظها من الحضور والتأثير وأخذ صوتها بالعلو والوضوح والفصاحة الأنثوية البارعة، وإذا ما تصفحنا دفتر الشعرية العربية الحديثة على سبيل المثال سنجد أن صوت المرأة في التغيير والتحديث كان الأعلى، فقد تصدرت الشاعرة نازك الملائكة دائرة الريادة الشعرية لقصيدة التفعيلة مع زميلها الشاعر الرائد بدر شاكر السيّاب، وكان ثمة سجال بينهما في قضية تحديد الرائد الأول التي بقيت معلقة ولم يحسم أمرها لصالح أحدهما.
يكفي أنْ تنازع الشاعرة نازك الملائكة {الأنثى} على موقع الريادة الشعريّة الذي كان على طول مسيرة الشعريّة العربيّة حقاً ذكورياً لا مراء فيه، وكان صوت الشاعرة الأنثى مُقارِباً لصوت الشاعر الذكوريّ إن لم يتفوّق عليه أحياناً، إذ صاحب صوتها الشعريّ صوتاً نقدياً محايثاً لصوتها الشعريّ نظرت فيه للتجربة الشعريّة الجديدة ودافعت عنها، ممّا كشف عن وعي أنثويّ كبير انتزعته نازك الملائكة وفرضته على فضاء الشعريّة والعربيّة والنقديّة العربيّة الحديثة بقوّة واقتدار، لتبقى نازك الملائكة أولا وآخراً رائدة من روّاد حركة الشعر الحرّ شكلا ومضموناً، سواء أكان ذلك في أصالة الظواهر الفنيّة التي قدمها شعرها، أم في كونها من أجرأ شعراء جيلها في الدعوة إلى التجديد تنظيراً وتطبيقاً، على النحو الذي يؤكد أنها صاحبة متن أصيل تعيد فيه الاعتبار لصوت الأنثى الشعري المغيَّب في تاريخ الشعريّة العربيّة. 
كان صوت الشاعرة نازك الملائكة صوتاً أنثوياً خلاقاً تمكن من إنجاز متن شعريّ أصيل في ثورة {قصيدة التفعيلة} التي أنجزتها الشعريّة العربية الحديثة، إذ افتتحت نازك بخطابها الشعريّ مساراً جديداً للشعر الأنثوي المعبر عن روح الأنثى وشواغلها وخصوصياتها، في سابقة لم تشهدها الشعريّة العربية على مر عصورها، إذ تقمصت الشواعر العربيات قبلها –على قلتهن- صوت الشاعر الذكوريّ، كي يجدن لهن مساحة ضيقة تحت رعاية شمس الشعريّة العربيّة الساطعة الذكورة والحارقة الفحولة، في ظل غياب شبه كلي لصوت الشاعرة الأنثى وخطابها وشخصيتها الجندريّة المميّزة، حتى جاءت نازك الملائكة الشاعرة الأنثى وأعادت الاعتبار لهذا الصوت الغائب والخطاب المؤجّل، وضربت موعداً منيراً مع فضاء الحضور والفاعليّة والتأثير والصيرورة الشعريّة 
الأصيلة.
يبدو أنّ نازك الملائكة لم تكن لتكتفي بحضورها الشاعريّ المنازِع على موقع الريادة في القصيدة الجديدة، بل تجاوزت ذلك إلى تكريس صوتها النقديّ العارف لتكريس حضورها النوعيّ اللافت في المشهد الأدبيّ الأدبيّ الحديث، وعززت خطابها الشعريّ بخطاب نقديّ رديف أسهم في تعظيم صوتها وتطويره ودعمه برافد مهم لم يكن معروفاً عن المرأة العربية في سابق عصورها، فلم تكن الانبثاقة الشعرية الجديدة التي أنجزت قصيدة التفعيلة مجردَ حركة عفويّة ثارت على الشكل الشعريّ القديم، بل كانت ثورة ذات طابع معرفيّ وفكريّ وثقافيّ معزّز بالوعي والتخطيط والإيمان والإدراك، ولعلّ نازك أول من شمل هذا الكشف بالإيمان العميق والوعي النقديّ العميق في مقدمتها على ديوان {شظايا ورماد} (1949)، فكانت صاحبة الصوت الشعريّ الجديد والصوت النقديّ الواعي والمؤمن بالتجربة عن معرفة وقصد، بما حق لها أن تكون رائدة حقيقية جعلت من حساسيتها الأنثويّة رائداً وقائداً لمسيرة شعرية ذات أفق حضاري 
متقدم.