صفحات من كتاب المسرح العراقي

ثقافة 2021/06/22
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب
لا غرو أن تجربة المسرح العراقي اقترنت بالجانب الاجرائي العملي وغلبته على الجوانب النظرية، وهذا ما تمظهر في كثافة عروض الرواد المسرحية الذين للاسف لم يتركوا لنا اثرا كتابيا نتكئ عليه من مدونات تحكي شواغلهم الفكرية والفلسفية والابستمولوجية، فخلت مكتبتنا المسرحية المحلية لفترة طويلة نسبيا من احتوائها لـ (منفستو) رؤيوي نظري لابراهيم جلال او جاسم العبودي او جعفر السعدي او بدري حسون فريد وغيرهم يعبد الطريق لناشئة المسرح لفهم أسلوبية هؤلاء المخرجين والبنى الداخلية لعروضهم.
 
إلاّ ما اسفرت عنه كتابات لاحقة عززها فتح باب الدراسات العليا في اكاديميات الفنون الجميلة والجهود الشخصية لباحثين نقبوا بصبر وتؤدة في مضان المسرح العراقي واعتمدوا الوثيقة والصورة واللقاءات والاستبيانات الدقيقة لمعرفة الأسرار والحقائق وايصالها الى القارئ بسهولة ويسر ومن هؤلاء الباحثين الباحث الدؤوب (عقيل ابراهيم العطية) الذي صدر أخيرا كتابه الموسوم (صفحات من كتاب المسرح العراقي) بعد انتظار وصبر طويل وبصفحاته المئتين والخمسين ليشكل نضيدة معرفية وطرسا ثقافيا حريا بالتتبع والتحليل والعرض والكتاب عبارة عن مجموعة مقالات مستقلة كتبت في أوقات مختلفة آثر المؤلف جمعها ووضع تواريخ النشر السابقة عليها إيمانا منه بحركية القراءة المسرحية المعاصرة وفهمها وتطورها على وفق المتغيرات السسيو ثقافية التي تطرأ على البنى
الفنية. 
وكان لإرجاء وتأجيل نشر الكتاب وطبعه مرات عديدة فضيلة اخرى تحسب للمؤلف الذي اضاف اضافات ومزيدات مهمة لمتن الكتاب اغنت من محتواه واطالت من عمره الافتراضي، انفتح الكتاب على موضوعات شائقة ابتدأها بـ (المرأة العراقية وفن التأليف المسرحي) ونصاب بالدهشة حقا لعدد ونوع النصوص الدرامية التي ألفتها المرأة العراقية من (فخرية اسماعيل) التي كتبت وأخرجت مسرحية (التطور) عام 1933 وصولا الى (عواطف نعيم) ومسرحياتها (جنون الحمائم) و(برلمان النساء) وتنوعها الأسلوبي وموضوعاتها العضوية، إلا ان اشتغالها الإخراجي كان قليلا جدا ومحدودا لاسباب (تعتمل فيها ثقافة ذكورية متعالية منعت البعض من الاقتراب من نصوص
مؤلفاتنا). 
كما يعبر (العطية) ومن الفقرات الاخرى الطريفة والمفيدة في الكتاب (العنوان في المسرحية العراقية) إذ يطارد فيه الكاتب عنوانات المسرحيات ويدخل في شرح وتفسير اهمية العنونة، وما تثيره من انطباعات اولى لدى المتلقي فيقول: (يمكن ان يكون العنوان ذاته مضللا وخادعا ويقصد منه احداث نوع من الالتباس المقصود رغبة في إثارة فضول المتلقي مثلما يكون واضحا جدا من أجل فهم النص وتلك مهمته الاولى) ص18، ويسهب الكاتب في جرد اسماء المسرحيات التي جاءت بعنوانين، واسباب ذلك مثل مسرحية (حكاية الطبيب صفوان بن لبيب وما جرى له من العجيب والغريب) و(السؤال) عنوانها الاخر لمحي الدين زنكنه او مسرحية (المتنبي) وعنوانها الاخر غير الرائج (الزمن المفقود في دير العاقول) لـ (عادل كاظم)، وأرى أن جدل ثنائية العنونة يستهوي الكاتب للتعريف بمرجعيات النص التراثية والاقتباسية فضلا عن الابعاد الرمزية
والتأويلية. 
وهذا ينطبق ايضا على نص (الجوهرة) او (السهروردي القتيل) لـ (عزيز عبد الصاحب)، وينفتح الكاتب على مقال مهم يتناول فيه (ستانسلافسكي.. جاسم العبودي.. والمنهج) في تداخل معرفي وببلوغرافي لعمل منهج ستانسلافسكي في الواقعية النفسية وعمل الممثل في المسرح العراقي وتعريف العبودي به إذ كان الأخير (يبحث عن البساطة في التمثيل والطبيعية في الاداء اي ان يبدو الممثل تلقائيا لا يعمد الى الإبهار ولا التكلف، وهذا جوهر ستانسلافسكي ولب نظريته). 
وفي جانب آخر يقف الكاتب على ما كان فيه (مسرحنا في ظل النظام الشمولي) وعمليات المنع القسرية للعروض والنصوص المسرحية من منطلقات ايديولوجية ودوغمائية واهية واستفاض في ذكر العديد من المسرحيات الممنوعة نصا وعرضا التي لم تظهر للعلن بسبب الرقيب الرسمي. 
وفي أحد مباحث الكتاب يفصح المؤلف عن عدد من (المصطلحات المسرحية الجديدة) التي ولد أغلبها من دون وجود مهاد نظري لها او حاجة فكرية او معرفية ملحة إنما لأجل التزويق والبهرجة والسباق نحو مفهوم (الحداثة)، منها المصطلحات التي جاء بها المخرج (صلاح القصب) ليعنون بها (فولدرات) عروضه، فبديلا عن مصطلح الاخراج خرج لنا بمصطلح (ذاكرة الرؤيا البصرية) وبديلا عن مصطلح السينوغرافيا الشامل اطلق عبارة (تشكيل فضاء المسرح) وعد الممثلين (صور العرض). 
وكذلك المخرج (عزيز خيون) استعاض عن مصطلح الاخراج بعبارة (الرؤيا الفنية) وكذلك يشير (العطية) الى مصطلح (السينوغرافيا) اسباب ظهوره بديلا للديكور وهكذا.. ينفتح الكاتب على سير فنية عديدة لاسماء مرموقة في الوسط المسرحي كـ (ابراهيم جلال) و (أحمد فياض المفرجي) و(علي مزاحم عباس) و(يوسف سواس) و(آسيا كمال) و(حميد محمد جواد) و(علي عيسى) في عرض لمآثرهم الفنية ومواقفهم الانسانية ومستوى الظلم والتعسف الذي حاقهم في حقول التمثيل والاخراج والنقد والتصوير الفوتوغرافي واستخراج كل ماهو مسكوت عنه ومضمر في حياتهم المهنية، وأشار الكاتب الى مراحل تأسيسية مهمة للفرق المسرحية كفرقة المسرح الفني الحديث وفرقة المسرح الشعبي والفرقة القومية للتمثيل والاشارة الى تاريخ تأسيسها الدقيق في ايار عام
1968.
 وأول الأعمال التي قدمتها، وعرج على السفرات والرحلات الفنية الاولى لفرقنا المسرحية، وما حدث فيها من مواقف واحداث تشي بقلم كاتب مجرب له حرفيته في فن الكتابة للمسرح والحياة وثبت في صحة وثائقه وبياناته، اشار الكاتب ايضا الى منتدى المسرح وخطواته الواثقة وكونه احد المؤسسين والضالعين في اشتراع هذا الفضاء التجريبي الذي خرجت من معطفه اهم الاسماء المسرحية المؤثرة التي تعمل اليوم في المشهد
المسرحي. 
وفي مبحث مائز اخر يذكر الكاتب (اثر الفرق المسرحية العربية في مسرحنا) وهو من المباحث التاريخية والتوثيقية المهمة، نقرأ فيه تواريخ واهمية زيارات فرق فاطمة رشدي وأمين عطا الله ويوسف وهبي الى العراق وعروضها في بغداد والألوية في بداية تأسيس الدولة العراقية واضمحلال الزيارات المصرية بعد الزيارة الأخيرة لفرقة يوسف وهبي عام 1956 (ولم تحظَ فرقة وفنان من الزائرين بنقد بل بهجوم لاذع مثلما حصل مع الفنان يوسف وهبي الذي عرض مسرحياته على قاعة الملك فيصل الثاني ـ الشعب) ص123، ويعلل الكاتب ذلك النقد اللاذع لأسباب فنية وغير فنية، إذ يقول (يجب ان لا ننسى اننا في العقد الثاني من عقد الخمسين وهو عقد استكمل فيه المسرح العراقي الكثير من مقوماته.. ولم تعد عروض الفرق الزائرة تدهشهم لأنها لا تحمل الجديد إلّا فيما ندر) ص124. 
ويشير (العطية) الى زيارات أخرى ستينية وسبعينية اهمها زيارة فرقة دريد لحام الى بغداد وعرض مسرحية (ضيعة تشرين) على خشبة مسرح الجامعة المستنصرية عام 1979، كنت أود على الباحث ان يستعرض بعض زيارات الفرق المصرية والاوروبية الى العراق منها فرقة عادل امام وفرقة محمد صبحي وفرقة سمير غانم وفرقة الرور الالمانية.