نلتقط الفواكه والنكات

ثقافة 2021/06/22
...

 ناجح المعموري
يأخذك شعر منذر عبد الحر منذ لحظة الابتداء الأولى الى قوة الاستهلال مثل طاقته وهو يتحدث معك هادئاً وأنت تتأمله بصمت، لكنه يقودك فجأة وتنفجر ضاحكاً مجلجلا صوتك ويردد نكتته الثانية ولا تتوقف عن الضحك وانت مندهش لمعاودتك للضحك في يوميات كئيبة وضاجة بالاسى ومزدحمة بالحزن، موت وجوع وأخريات استدعاها العمر. كم هي مثيرة سرديات اليومي الجديدة والمتكررة التي تكاد تتبدى غير معروفة من قبل، لكن الحيوي فيها هو طريقة السرد والتقاط ما يمنح المستمع بالتوتر والضحك الطارد للصمت. 
 
وانت تستمع لمنذر عبد الحر طويلاً وجلسات ضاجة وتمظهرت لي قصيدته الاولى «اصدقائي الاثرياء» احدى مرويات الضحك، مبتكرة لأجل ذلك، وذكرتني بكل الذي استمعت له، حتى تحولت سفرتي معه الى فضاء غامر بالمتع والسعادة، كاشفا عن ذاكرة متوترة وقوية تستعيد كل ما فيها من خلال صداها في بنية اليومي والمألوف من الثقافة. 
 
أصدقائي الاثرياء 
صفوا ثرواتكم
وكنوزكم 
وكل ما يمكن ان يطمع به فقير مثلي
صفوها أسمعكم آخر نكتة
اضحكوا.....
الضحك مجاني
ونحن الفقراء
نجيد صناعته 
تعالوا معي 
لن تثلم صحبتي ثرواتكم/ ص5 
كم هو اليومي/ المعروف الذي تضمنه هذا النص ببساطته وسهولته وسردياته المتحركة التي قالت ما يريده الفقراء، هي أحلامهم لكن كل المتكرر فردي وغير جمعي، لان الاثرياء لا اصدقاء فقراء لهم. والنص المشحون بالسخرية والمحايلة والكذب هو نوع من العقاب الذي انطوى عليه ما قاله ابناء الحياة الدنيا وصاغه خطاباً ساخراً ومتهوراً، ليس من الحاضر فقط، بل من الماضي كله والمستقبل الممتد الى لا احد يدري اين. ومثل هذه الطاقة المفتتة للرتيب يومئ للمألوف الذي يمثل صوغاً لبعض اليومي الذي لا يتعكز على التتالي المحكوم بحلقات متتالية، منظومة بتسلسل كما قال ياسين النصير، وكأنها طفرات لها خصائص نوعية في الزمن الذي
 نعيشه.
الشعر اليومي الذي تسلل إلينا في السبعينات وقاده الشاعر سعدي يوسف، أضاء مرحلة كلها جديدة تهيمن عليها اهتزازات سرديات هادئة، مرنة، لينة، وكأنه يدغدغ كوامننا بذكاء قوة وحكمة الصوت المألوف برتابته وتكرره. والمثير أن مثل نص منذر عبد الحر هو ممتلك الاثارة، على الرغم من كل هدوئه ومرروياته البسيطة، لكنها تعرف ما هو ملغوم في النص، معلناً عن الشعري والانثربولوجي بوصفه بعضاً من حياة الافراد والجماعات، وينسف المتحركات الصاخبة، ليعيد الهدوء لمثل هذه التجربة ويطلقها بحرارة الصمت ومغادرة الايقاع من فضاء التماثل والتكرر متخلصاً من الصرامة وقوة الانضباط. والتقاط مفردات منتقاة بذكاء ومهارة. ويعتقد البعض بأن مثل هذا النص سهل كتابته. وصعوبته الغائبة ظاهرة في مروياته الصغيرة ذات الصلة باليومي والحياة
العامة. 
وبالإمكان التعامل مع هذا النص باعتباره من القرية او المدينة. لكن الحداثة في اعماقه والصفة الحضارية مدينية، لكن خصائص النص ريفي ومديني، ونجح الشاعر منذر عبد الحر استعادة خصائص العديد من الشخوص في الحياة. لكنه اعطى الفقراء مرتبة النزاهة والنبل والمهارة بانتاج سرديات
النكتة. 
لذا نصحهم ــ الاثرياء، بالمجيء لأسمعكم آخر نكتة/ اضحكوا... الضحك مجاني/ ونحن فقراء نجيد صناعته/ تعالوا معي/ لن تثلم صحبتي/ ثرواتكم/ الضحك خزان الفقراء وبهجة اللحظة التي لا يعرفها الاثرياء المهيمن عليهم الحزن بالخسارات المتكررة، احلامهم يعززها الصراع والخوف والفشل، هذا ما تعرف عليه الشاعر الفقير المكتنز ببسالة النكتة المروية التي تحفظها الذاكرات وتتداولها ليل
نهار. 
إنه نوع من ابداعات الفقراء المتباهي بهم، لأنهم عشاق حالمون، يطيرون بأجنحة الغناء فراشات بين زهور المعنى، هم أكثر ثراء من تجار السيارات ومقاولي الدم/ اصدقائي الفقراء/ لا يضحكون كذباً/ ولا يرون في العالم/ إلّا الحب/ عائماً كسفينة من عطر/ نهرها عذاب مقدس/ وشراعها ... لوعة تبث قصائد يهدونها لحبيباتهم/ هم ..../ أكثر ثراء/ بأناقة ملامحهم/ ص10.
نص من أجمل ما قرأت وكررته صوتاً، وتضاعف الجمال الكامن فيه ايقاعاً وصمتاً وتتبدّى براعة منذر عبد الحي الذي يلتقط النادر في الحياة، يومياتها، ومتاعبها، كم هو عظيم فقرنا وقوية مجاعتنا، لكننا عشاق، لا ننسى الحب نزاوله علنا وندعو له صديقاتنا العاشقات، المجنونات بزهو الحياة. الفقراء ثروات محفوظة ومؤمن عليها في عمق ذاكرات عشاق السرديات، نرقص ليلاً ونهاراً في الصحو والاحلام، نرقص معهم يسمعون اصواتنا، لكن ظلال اجسادنا متشابكة في فراديس الجنون، تلتقط الفواكه
والنكات. 
ما بلغت الانتباه في النص الشعري المسحور باليومي ــ مثل نص الشاعر منذر عبد الحر ــ هو المتغيرات التي دائماً ما تطرأ في الكلمة الشعرية، وهذا المثير يذهب نحو تكونات الصورة الجديدة كما قال الاستاذ ياسين
النصير. 
فقد تحررت الكلمة من أطر معرفية وأسلوبية سابقة، لتدخل في أطر معرفية جديدة، هي الأطر الواقعية التي تفرز خلال عمل الناس اليومي. 
ونقل النصير رأياً مهماً للمفكر تودوروف: بدأ الادب يتجه نحو لا معنى له، ونحو ما هو يومي، واللامعنى، واليومي، من الموضوعات التي تجاهلها الادب، بوصفه انتقائياً
مدرسياً.
إن اليومي الذي التقطه منذر عبد الحر كثير للغاية ومتروك في كل مكان، لكن المهارة تتمظهر في التقاط المتجوهر من اليومي وهو الكهف الطلسمي وخلف الياقة والحامل لمكونات النفس من دون ان يبيح الوعي حتى وابرازها ودفعها الى السطح/ نقلاً عن لواء الفواز/ فلسفة المعنى.