صيحة ماركيز

ثقافة 2021/06/23
...

لؤي حمزة عبّاس
 
في لحظة فارقة من أحد أيام الربيع من عام 1957، يلتقي الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز أرنست همنغواي في شارع سان ميشيل بوليفار في باريس، كان همنغواي يسير على الجانب الآخر من الشارع، في اتجاه حدائق لوكسمبورغ بصحبة زوجته ماري ولش، وهو اللقاء الذهبي الوحيد بين ماركيز الشاب، كان وقتها في الثامنة والعشرين من العمر، وهمنغواي الذي لم يبق له سوى أربع سنوات قبل أن ينهي حياته الصاخبة برصاصة من بندقيته، سيجد ماركيز نفسه محتاراً بين أمرين، أمام هذه المصادفة غير المتوقعة، وستقسمه الحيرة بين القاعدتين اللتين تتنازعانه بين الكياسة المهنية والإعجاب الشخصي: هل يعبر الشارع ليسأل همنغواي لقاءً صحفياً، أم ليراه عن قرب ويعبر له عن إعجابه المفرط به؟، لكنه أمام شعوره بعجز أنجليزيته الركيكة، ومن أجل أن يستثمر المصادفة على نحو أمثل، يحلق كفيه حول فمه كطرزان في الغابة، ويصيح بأعلى صوته من أحد الرصيفين إلى الآخر «مااااايسترو» (يا أستاذ)، يفهم همنغواي على الفور الصيحة الموجهة نحوه، فيستدير ويرفع يده ويرد باسبانية قشتالية، بصوت شديد الطفولة «أديون، أميجو» (وداعاً، صديقي)، كانت تلك الصيحة وجوابها كفيلين بأن يبقيا همنغواي حياً في ذهن ماركيز وروحه بهيئته البشرية اللافتة «مثل جد لم ينضج بعد». إنها لحظة فارقة تنشأ من جماع المصادفات اليومية العابرة وتمضي على الفور في أقاليم الخيال، يمكن إدراك الأمر: بالنسبة لماركيز الشاب لم يكن همنغواي حقيقياً على نحو كامل، بل كان رجل الخيالات سريع الزوال كالزهور، الصيحة وجوابها وقد تركا لماركيز انطباعاً بأن شيئاً قد حدث إلى الأبد في حياته، مثلما ستمثل اللحظة نقطة مضيئة في حياة كاتبين من أهم وأبرع الكتاب وأكثرهم تفرداً في تاريخ الأدب. اللحظة التي سيجعل ماركيز منها مختبراً لمراجعة دروس الكتابة التي تعلمها من همنغواي، وفحص آليات عمله بين القصة القصيرة والرواية، في طرقه المستمر على معدن الكلمات وصولاً لأعلى كثافة ممكنة، إنها بلا شك الكثافة التي أخذت بيده إلى الانتحار، وهي اللحظة التي يصعب عندها التفريق بين أشباح الواقع وأشباح الخيال، مثلما هي، بالنسبة لهمنغواي، لحظة الاستماع لصيحة مجنون آخر من مجانين الخيال.
أُعيد قراءة الترجمة العربية لمقال ماركيز الذي يتحدث فيه عن اللقاء بشحنته الساحرة، بعد أكثر من عشر سنوات على قراءتي له، وأفكّر بالكثير من المصادفات السعيدة التي لم تحدث، ماذا يمكن أن تخلّف لو أنها حدثت فعلاً متجاوزةً حدود الزمان والمكان، عابرةً الحواجز الكونكريتية بين اللغات؟، فماذا لو إلتقى جيمس جويس الشاب دانتي اليغري في مصادفة من مصادفات الخيال، هل سيحتار كما احتار ماركيز، ويشاغل حيرته بتثبيت نظارته ذات العدستين الدائريتين على أنفه؟.  
وهل سيكتفي بالصياح «مااااايسترو» أو أية كلمة أخرى؟، وهل ستترك الصيحة أثراً في نفس العاشق الإيطالي الصموت كما تركت في نفس الأميركي؟، وماذا لو التقت التشيلية إيزابيل اللندي فرجينيا وولف بوقارها الانكليزي، وكانت كلٌّ منهما تسير على رصيف لندني في يوم ماطر؟، أنا على يقين أن اللندي ستصيح بصوت تسمعه لندن كلُّها، لكن يصعب التنبؤ ما إذا كانت وولف ستتوقف لترد أو تواصل المسير وعلى شفتيها يلوح شبح إبتسامة لغرابة سلوك فتيات هذه الأيام، أفكر بلقاء ذهبي آخر في مكتبة بوينس إيرس العامة يجمع بين وليم شكسبير وجورج لويس بورخس، بعد أن جمعت بينهما المخيلة مرّاتٍ فتحدّث بورخس عن شكسبير في محاضراته عن صنعة الشعر، كما كتب عنه قصته اللامعة «ذاكرة شكسبير»، هل سيصيح بورخس، لا أظن ذلك، فوقار الشيخوخة العمياء وهيبة المكتبة من حوله كفيلان بردعه عن التصريح بأوهى عواطفه، سيكتفي في ما أظن بمراقبة شكسبير وهو يتجوّل بين الرفوف متفحّصاً عناوين الكتب بعناية واهتمام، وسأعرف عندها أن في الخيال لن يقف العمى مانعاً من دون رؤية المرء من
يحب.