الجماعات الثقافيَّة في العراق.. الحضور والغياب

ثقافة 2021/06/23
...

 البصرة: صفاء ذياب
 
لم يخل تاريخ الثقافة العراقية من تشكّل حلقات ثقافية عديدة، هذه الحلقات التي تحوّلت في ما بعد إلى جماعات ثقافية أثّرت بشكل واضح في سياق الثقافة العراقية، وغيّرت كثيراً من وجهتها، وربّما تكون جماعة كركوك الأكثر شهرة لأسباب كثيرة، منها أنها تشكّلت في زمن ارتفع منسوب الصراعات السياسية، لاسيّما بين حزب البعث والحزب الشيوعي، على الرغم من ابتعاد هذه الجماعة فعلياً عن السياسة، غير أن الجدالات التي دارت في ما بعد أدخلتها عنوةً في الشأن السياسي، لاسيّما بعد أن أصدر أحد أهم أقطاب السلطة حينها سامي مهدي كتابه (الموجة الصاخبة)، ورد الشاعر فاضل العزاوي، الذي يعد من أعمدة جماعة كركوك، بكتابه (الروح الحيّة).
وإذا عدنا إلى بدايات تشكّل الثقافة العراقية المعاصرة، فلا يمكن أن ننسى الجماعة التي تأسست في جامع الحيدر خانة التي بدأت على يد حسين الرحَّال، بعد الحرب العالمية الأولى، وانضم إليها محمود أحمد السيد وجميل صدقي الزهاوي وعوني بكر، ليصدروا في ما بعد صحيفة يسارية بعد زيارة حسين الرحَّال لألمانيا ولقائه بعصبة سبارتكوس، وكانت هذه الصحيفة انعطافة كبيرة في تاريخ الحركة الثقافية العراقية، نقلت أفكاراً وتجارب ثقافية من ألمانيا وانكلترا والهند. وقد ترك هذا التجمع بصمة كبيرة، وأنتج نخبا سياسية ووطنية وثقافية. بعد ذلك تأسست جماعات أخرى أغلبها كانت متأثرة بالتجربة الغربية، الانكليزية والالمانية.
ولا يمكن أن نتجاوز الجماعات التي كوّنها شعراء من الجيل الثمانيني والتسعيني، لكنها لم تكن فاعلة ومؤثرة في جسد الثقافة العراقية، غير أننا منذ عقود ليست بالقصيرة لم نشهد تشكل جماعة ثقافية أو أدبية حقيقية يمكن أن تؤسس لتجارب جديدة في هذه الثقافة، فما الذي يمنع من تشكّلها؟.
 
واقع متغير
يشير الدكتور علي داخل فرج إلى أن علينا أن نعود إلى العوامل والأسباب والمؤثرات الاجتماعية والسياسية التي أدت الى ظهور أو تأسيس الجماعات الأدبية في القرن العشرين كجماعة الديوان، ومدرسة أبولو في مصر، وجماعة شعر في لبنان. ولا بد لنا أيضاً أن نستذكر واقع الصحافة في تلك الفترة التي شهدت بروز هذه الجماعات، وانتشار الصالونات الأدبية التي كانت ميداناً رحباً للجدل والخلاف الفكري و(المعارك) الأدبية. ولعلنا نستطيع القول إنَّ هذه العوامل والمؤثرات ببعدها الفكري وحتى السياسي أسهمت في خلق نوع من ذائقة اجتماعية أدبية كان من نتائجها ظهور هذه الجماعات، ولعل هذه الذائقة الاجتماعية المشرّبة بتأثير الواقع السياسي توازي- ولستُ أريد المقارنة الحرفية- الذائقة التي أنتجت الجمعيات السياسية العربية في أواخر العهد العثماني، كجمعية العربية الفتاة التي تأسست في باريس، وجمعية العهد التي أسسها عزيز علي المصري في إسطنبول.
ويبين فرج أن انحسار الجماعات الأدبية في العقود اللاحقة، كان نتيجة حتمية لتغير الواقع الاجتماعي والأدبي والثقافي، فضلاً عن السياسي الذي لم يُبقِ فسحة لظهور جماعات مماثلة، فالصحافة- بما فيها الأدبية-التي تطوّرت تقنياً وانتشرت ورقياً ورقمياً في السنوات الأخيرة أصبحت أقل استقلالية وغلب عليها الطابع الحزبي والرسمي- الحكومي، أما الصالونات الأدبية، فنستطيع القول إنّها اندثرت وأصبحت شيئاً من التاريخ، ولعلَّ هذه المتغيرات التي لم يسلم منها أي مفصل من مفاصل الحياة الاجتماعية الفكرية والأدبية في العقود التي تلت تأسيس تلك الجماعات تفسّر فشل المحاولات الخجولة لتأسيس جماعات أدبية غير مؤثرة انحسرت بعد مدة وجيزة من تأسيسها.
 
فقاعة التجمعات
وتوضح القاصة إيناس البدران أن هنالك خصائص تجمع الأدباء والمثقفين في كل زمان ومكان، لعلَّ أبرزها الثقافة الموسوعية والإحساس العالي بحركية الحياة ونبضها المتجدد، فضلاً عن تماهي الأديب مع الإنسان. الأديب الذي يعيش نبض الشارع ليستحيل مرآة لمجتمعه ولساناً معبّراً عن آمال وآلام الجمهور الواسع والمثقفين في آن واحد، فمن من البديهي أن تظهر بين الحين والآخر حركات أدبية وتيارات فلسفية كإفراز لمعطيات ومتغيرات المرحلة التاريخية المعاشة، ومن هذه المجاميع والتيارات ما يأفل ويزول سريعاً، ومنها ما يحمل بذور حيويته وتجدّده إلى آماد بعيدة. ولعلَّ أبرز مثال معاصر على ذلك التجمّعات “الفيسبوكية” التي غالباً ما تتلاشى كالفقاعات فتعدّ مثالاً جلياً على تأثر العديد من الكتاب والأدباء بالتقنيات المعلوماتية ووسائل التواصل عبر الشبكة العنكبوتية.
 
لحظات تاريخيَّة
وبحسب الدكتور نصير جابر، فإن الجماعات الأدبية كانت حاجة ملحّة وضرورية في لحظة تاريخية معينة... حاجة يمكن أن نقول عنها بأنها (وجودية) للتخندق الفكري والثقافي من أجل رفع الصوت عالياً أو من أجل تأسيس حراك دال ومؤثّر في زمن كانت فيه الثقافة منقسمة على فئات وأيديولوجيات- يمين ويسار- انقسامات واضحة يحتاج فيها صاحب المشروع الجديد أو صاحب الفكرة الجديدة أن يكون قويّاً، لذا يلجأ إلى (آخر)، إمّا يشترك معه في حمل هذه الفكرة أو ينحدر معه من مكان جغرافي واحد (مثل جماعة كركوك) أو جماعات (المهجر) التي ربطتها أواصر الغربة واللغة، ولكن الآن تغيّر كل شيء، فقد أصبحت الأفكار تظهر وتندثر بسرعة البرق، وذابت الهويات الثقافية الواضحة في أشكال لا عدّ لها ولا حصر من هويات جديدة، وأصبحت (السوشيال ميديا) هي الجماعة الأكبر هي التي تتحكّم بوسائلها الإشهارية ذات التأثير البالغ في (نشر) و (وأد) ما تريده وما لا تريده، فهناك (كروبات) و(صفحات) تحت مسمّيات ذات دلالة قد تشي بأنَّ من يتفاعل معها أو ينشر فيها مؤمن بما تطرحه، ولكن الحقيقة أنَّها جماعات غير أدبية مهما حاولت أن تصطبغ بلون الأدب لأنَّها تظل مجرد بؤر إشهارية الغرض منها ليس التأسيس، بل الاستهلاك.
 
تحولات الثقافة
في حين يشير الكاتب زهير بهنام بردى إلى تأثير التجمعات الأدبية كظاهرة تشكّلت مع تطوّر الأنماط الأدبية، مبيناً أن التجمعات الأدبية أو المنتديات والأنماط الإبداعية ظاهرة مازالت مستمرة، فبعد أن شهد العراق والمنطقة العربية والعالم منذ الستينيات ظهور المدارس الأدبية والمنهج الإبداعي سواء النقدي أو الإجناسي في المحيط الإقليمي والمنطقة العربية والعالم تشكّلت مدارس وجماعات وتيارات أثرت في الإبداع والمشهد الثقافي لتقود حركات أدبية واتجاهات ثقافية أثّرت في الحركة الثقافية من خلال نشاط وتفاعل وبحث تلك التجمعات عن كل ما هو حديث وجديد في النتاج الإبداعي والثقافي، فظهرت في العراق منذ بداية الستينيات تلك التجمعات التي كانت تضم مجموعة من المثقفين تجمعهم رؤى ويتبنون مدرسة قبل أن تسعى إلى أدلجة النتاج الثقافي كجماعة كركوك. أما اليوم فهناك اتجاهات بمفهوم الجماعات أو الحركات الأدبية، لكنها غير معلنة في تجمع أو بيان أو إعلان أو روابط توثق ذلك، لكنّها تأخذ شكل مدرسة أدبية أو شكل تيار أدبي أو اتجاه إبداعي ضمن طروحات أو أشكال إجناسية، كقصيدة النثر والقصة القصيرة جداً والرواية القصيرة.
 
انفتاح التغيير
ويرى الشاعر والناقد حميد حسن جعفر أن كثيراً ما تتشكل الجماعات وفق حسٍّ جمعيٍّ من جهةٍ، وحسٍّ فرديٍّ من جهةٍ أخرى، أي أنَّ التناقضَ عنصرٌ لا يمكن أن يغيب عن المشهد، فما إن تتشكل هذه الجماعة، حتى يبدأ التفكير بالخروج منها وعليها، فأية نظرة فاحصة للجماعات على مستوى العراق أو البلدان العربية ستشير إلى أن الأفكار والآراءَ وضمن الفعل الثقافي عامة والأدبي خاصة تتناقض والرأي الواحد، إذ لا قيادة جماعية بمقدورها أن تحطّمَ أو تدمّرَ أو تلغي التفرد الذي يسعى اليه المثقف- أديباً أو فناناً- فالتجمعات بحاجة الى الانفتاح، إلى هامش من الحريات، هذه التفاصيل هي التي عملت على ظهور جماعات مثل جماعة كركوك أو الوقت الضائع التشكيلية، بل يمكن أن نعد ظهور المقاهي- البرازيلية وحسن عجمي- فالانفتاح عنصر أساسي لظهور الجماعات، فالأنظمة التي تعتمد الحزب الواحد والرأي الواحد كثيراً ما تعتمد الحس الجمعي كوسيلة لصناعة الثقافات، فالمنابر التي تمتلكها وتعتمدها، فضلا عن غياب المشروع الإبداعي لدى الآخر، هذه النواحي تصنع الفعل الثقافي، فالتغيير وبرغم أنه فعل جمعي تبقى الأهمية للفرد في صناعة التحريض والحث، فضلاً عن أن التغييرَ يجب أن يكون شاملاً يؤثّر بمفاصله أي تطوّر وأفكار مستجدة.