حول الحكمة وبيتها

آراء 2021/06/23
...

 د علي المرهج
 
مع بداية تأسيس بيت الحكمة البغدادي، بدأ وعي الثقافة العربية بضرورة الإفادة من علوم الأمم الأخرى واللحاق بها، لذا وجدنا المأمون حريصاً على أن يتمكن المثقف المسلم وغير المسلم من الذين يعيشون فتح بهم بيت الحكمة، أن يعملوا على ترجمة علوم اليونان وفلسفتهم، لتحقيق النهضة الحضارية التي شكلت وعي العرب والمسلمين ثقافياً وفلسفياً.
 
وبالفعل تمكن المُثقف الشرقي من إدراك ووعي حاجيات مُجتمعه، بما يجعل هذه العلوم والفلسفات على توافق مع الدين بوصفه المكون الأساسي للتماسك المُجتمعي والتقدم الحضاري. الفيلسوف بحسب رأينا هو الذي يُعمل ذهنه في محاولة معرفة العلوم أو الفكر أو الأدب أو الواقع، وهو بهذا المعنى أكثر مقبولية من لفظة مفكر، لأن كل إنسان هو كائن يُفكر، ومن هنا فبعض المُستنيرين هم مثقفون ينتمون للوعي العقلاني الفلسفي. 
يُقصد بالمثقفين هم "تلك الطبقة التي تقوم بالفكر كعمل" ـ بحسب تعبير شريعتي. وأدوات عملها الاجتماعي هي عقولها ومعلوماتها وتخصصاتها في مُقابل الطبقة التي تقوم بعمل يدوي أو بدني".
كثير من مثقفينا حاولوا بناء ثقافتهم عبر التأثر بما قدمه الفلاسفة اليونان قديماً، وما قدمه المثقف الأوروبي حديثاً، وعلى الرغم من تباين النشأة وطبيعة التكوين الثقافي بيننا وبين الغرب، إلّا أن المثقف العربي تمكن من "تبيئة" الكثير من معطيات الفلسفة والعلم الغربيين، بتعبير محمد عابد الجابري. 
ما يُميز بيت الحكمة وجود الفلاسفة والعلماء المسيحيين، الذين كان لهم الدور الأكبر في تطور الحضارة الإسلامية والفكر. 
لقد بنوا ثقافة وسطية عبر تمكنهم من مسك العصا من المُنتصف كما يُقال، فلم يبنوا ثقافة مسيحية، لأن المهيمن الثقافي أنثروبولوجياً وسياسياً هم أصحاب ثقافة إسلامية، لذلك آثروا تبني رؤية ثقافية وفكرية بعيدة عن تأثيرات الدين والسياسة، لتكون أفكارهم بمثابة عتبة للدخول في عصر العلم إسلامياً، ونهضوياً في فكرنا العربي الحديث.
لم يتخذوا من ثقافتهم ونشأتهم الدينية وسيلة لبناء وعي مناهض، كما لم يكتبوا وكأنهم منضوون تحت تأثير الثقافة الإسلامية، لذلك وبوعي أخاذ تمكنوا من المشاركة في بناء وعي فكري جديد ليس دينياً، ولا روحياً، ولا شعرياً، إنما هو وعي فلسفي ومعرفي وعلمي يخدم مجتمعهم بكل تنوعاته الدينية والمذهبية، وميزتهم الأهم أنهم أفراد أبدعوا في نتاجهم الذهني والعقلي وتميزوا عن باقي أفراد مجتمعهم، كونهم بتعبير محمد عابد الجابري في كتابه {المثقفون في الحضارة العربية} أفراد لم يتخذوا من {العقيدة} إطاراً للانتماء والاحتماء، بل مارسوا دورهم الإبداعي، بوصفهم قادرين على بناء رؤية مُستقلة عن نشأتهم العقائدية والدينية.
كانت مهمة الحكيم في بيت الحكمة المشاركة في تنمية الوعي الحضاري والنهضوي، فانبرت لهذا العمل مجموعة العُلماء والفلاسفة والمترجمين، من بينها مجموعة كبيرة من العلماء المسيحيين، وأغلبهم من السريان، فقد كانت المسؤولية المُلقاة على عاتقهم هي منح الحياة أكبر قدر من الإمكانيات، ومعرفة {الوضع الراهن} وكشف قوى الطبيعة والإنسان واستغلالهما. 
الأمر الذي يعني تداخل مفهوم المُثقف مع مفهومي العالم والفيلسوف، لأنه يُشارك في صناعة الوعي وتنميته، فضلاً عن مشاركته في تعلم ومعرفة النظريات العلمية والفلسفية وحفظها، لذلك لم يكن المثقف هو {الواعظ} ولا الذي يسير على نهج ديني موروث، وليس هو من يخضع لقيم وتقاليد مُجتمعية بالية، إنما هو الفرد الأصيل الواعي بمُتطلبات مجتمعه وإمكانات التغيير من داخله.
لم يكن العرب يعرفون اللغات الأجنبية، فقام بحركة النقل والترجمة عدد من السريان المسيحيين واليهود. من أهم الأسر من المسيحيين هم {آل بختشيوع وآل ماسويه وآل حُنين بن إسحاق}. 
هكذا كانت الحكمة وقبول التعددية والاختلاف في بيت الحكمة.