مدن (نوماد لاند) تحت أنظار الكاميرا السينمائيَّة

ثقافة 2021/06/24
...

 د. فخري العباسي 
 
 كثيرون هم أولئك الذين حلموا ويحلمون بالهجرة والعيش في أميركا منذ أن نشأت دولة المهاجرين الكبرى التي فتحت أبوابها أمام الهجرة وإلى اليوم الذي لم تتعقد فيه حياة المهاجرين القدماء إليها فقط وإنما حياة الأجيال الأميركية الجديدة أيضا التي أصبحت مضطرة إلى مواجهة التشرذم والتشرد والتهميش على أرض الاحلام.
 تلك هي الرسالة التي يوجهها الفيلم السينمائي أرض الرحالة نوماد لاند (Nomadland) الذي حاز على جائزة الاوسكار الدولية والذي يتم عرضه أخيرا على شاشات السينما بعد انتظار طويل نتيجة غلق صالات السينما لمدة زادت عن أكثر من سنة كاملة بسبب تفشي مرض كورونا. 
يعرض هذا الفيلم المقتبس من كتاب إنقاذ أميركا القرن الحادي والعشرين (Saving America in the Twenty – First Century) لمؤلفته الصحفية الأميركية جيسيكا برادير تلك الحالة الفريدة التي تجسدها كرافانات الأسر الأميركية الرحالة الفردية والجماعية التي تجوب المدن الأميركية لا لشيء إلا للبحث عن عمل تتمكن من خلاله الحصول على العيش الذي أصبح يشكل ظاهرة تعاني منها فئة مهمة من المواطنين الأميركان ليس فقط السود أو مهاجري أميركا اللاتينية أو الدول الفقيرة وإنما امتدت لتشمل حتى المواطنين البيض
 ايضا.  
يروي هذا الفيلم معاناة الأسر التي فقدت عملها بعد الأزمة التي حدثت عام 2008 وما بعدها في العديد من المدن الأميركية بعد غلق المناجم وغيرها من المصانع، والتي كان من نتيجتها ولادة طبقة من العمال الأميركيين البيض والسود واللاتينيين الذين وجدوا أنفسهم وهم يفقدون تدريجيا حلمهم الاميركي، حلم الرفاهية والقوة الشرائية العالية التي تمتعوا بها لسنوات
 طوال. 
ركزت مخرجة الفيلم كلويه زاو (Chloé Zhao) في هذا الفيلم على حالة سيدة أميركية، هي فيرن التي جسدتها الممثلة الأميركية القديرة فرانس ماكدورماند (France McDormand), والتي فقدت زوجها وتضطر إلى ترك مدينتها الصغيرة الواقعة في نيفادا على متن كرفان متنقل جعلت منه منزل رحلتها الطويلة تعيش فيه وتنام في سرير بسيط أعدته لنفسها بحثا عن عمل، وهي تتنقل من مدينة إلى أخرى بعد أن كانت قد عاشت حلمها الأميركي لسنوات طويلة. اعتبارا من رحلة السيدة فيرن الطويلة، تشد مخرجة الفيلم أنظار المشاهد لتضعة أمام هذه المرأة التي لا تتردد من مضغ ذكريات الماضي وهي تراجع البوم صور أسرتها الذي لم تنس أخذه معها وتقلب هذه الصور كل مساء قبل أن تنام ثم وهي ترسم إبتسامة رومانتيكية على وجهها كلما زادت من تقليب صفحات البومها النفيس. على أن المخرجة تركز بشكل خاص في هذا الفيلم على ظاهرة التكاتف الانساني والتضامن الفريد بين رحالة نوماند لاند عندما تلتقي هذه السيدة بهم أثناء رحلتها الطويلة، إذ يولد عصر جديد من العلاقات المتبادلة التي لم تكن تعرفها سابقا، علاقات العيش المشترك والتعاون والخدمات المتبادلة التي كانت مهملة في حياتها السابقة، حياة العزلة والأنانية وعدم الاهتمام بالآخرين.  
كثيرة هي الرسائل التي يحملها هذا الفيلم في مشاهده المؤثرة. وإذا كانت إحدى أهم هذه الرسائل الموجهة فيه تتمثل في التذكير بأن الحلم الأميركي قد أخذ في الزوال التدريجي على أعتاب القرن الحادي والعشرين، فإنها قد تشكل أيضا رسالة يريد من خلالها إيقاظ وعي المشاهد بأن أميركا الرفاهية والمنازل الفارهة وسيارات الروز رايز والدوج والمتعة اللامتناهية التي كنا نشاهدها في أفلام منتصف القرن العشرين قد أفرزت أجيالا جديدة من البؤساء والمشردين والمهمشين الذين لا ينتمون فقط إلى السكان السود واللاتينيين بل أيضا وخاصة إلى البيض الذين يهيمنون على مشاهد الفيلم والذين يعيش الكثير منهم في عزلة قاسية لا تقل عن عزلة السكان السود أو اللاتينيين.
 كما أن الفيلم يعرض تلك الظاهرة الأخرى التي تتمثل في التكاتف والتضامن الذي ينشأ بين رحالة نوماند لاند سواء كانوا بيضا أو سودا أو لاتينيين وهو ما كان غائبا عن المجتمع الأميركي الانعزالي الذي تعيش فيه المجموعات السكانية متباعدة تماما الواحدة عن الأخرى والذي تمارس العنصرية فيه بأشكال متنوعة من الاستعلاء الأبيض.
هل تشكل هذه الظاهرة التضامنية التي يعرضها هذا الفيلم رسالة أخرى، رسالة ترد فيها المخرجة بشكل غير مباشر على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي لم يتردد من محاولة إنشاء جدار يفصل بين أميركا والمكسيك لمنع المهاجرين من الدخول إلى أميركا؟، وهل يشكل هذا الفيلم رسالة موجهة إلى الاجيال الجديدة تدعو فيها مخرجة الفيلم إلى ضرورة التلاحم في المجتمع الأميركي الجديد والعيش التضامني المشترك للتمكن من مواجهة الأزمات الاقتصادية التي تعصف بهذا المجتمع؟، لم تصرح المخرجة بشيء عن مثل هذه الرسائل التي يتضمنها الفيلم، إلا أنها نجحت في تقديم صورة غير مألوفة عن هذا المجتمع الأميركي الجديد الذي جردته من أحلام القرون السابقة بمهارة بفيلمها الفريد الذي حصد حال عرضه أرقى جائزة سينمائية، ألا وهي جائزة الأوسكار الدولية.