ليل تشيلي.. عمل شديد الأصالة والتفرّد

ثقافة 2021/06/24
...

  هدية حسين
 على الرغم من أن رواية الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو ليست طويلة وجاءت بـ 166 صفحة، إلا أن القارئ يشعر بأنها ذات نفس طويل تخوض في بحار متلاطمة من تاريخ الأدب والحياة الاجتماعية والسياسية لتشيلي البلد اللاتيني الذي يقع في أميركا الجنوبية، خرج من أرضه أدباء أثروا الحياة الثقافية وأثروا في الأجيال اللاحقة، منهم بابلو نيرودا الذي سيكون له وجود في هذه الرواية، وإيزابيل الليندي العلامة الفارقة في الأدب العالمي، ومن أشهر السياسيين سلفادور الليندي الذي قتل في انقلاب العام 1973 الذي قاده العسكري أوغستو بينوشيه.
يجري السرد على لسان البطل سباستيان لاكروا، الكاهن والأديب في آن واحد، شخصية مرتبكة، شكّاكة غير مستقرة تبحث عن السلام مع النفس فلا تجده، فكل شيء يبتلعه الزمن في ليل تشيلي، يقول في بداية الرواية (أنا الآن أموت، لكن لديّ أشياء كثيرة لم أقلها بعد)، سنقرأ ما يخبرنا به، ولكن ماذا أراد أن يقول لنا قبل أن يموت أكثر مما قال؟، يضعنا المؤلف لرواية ليل تشيلي منذ الصفحات الأولى في صلب ذلك التاريخ المرتبك وبطله الأكثر ارتباكاً، سباستيان الحائر بين رداء الكهنوت والأدب، فهو شاعر وناقد أيضاً، ولم يستطع الفكاك من الاثنين برغم أن الأدب هو الذي يأخذ النصيب الأوفر من حياته، لكن الناس الذين يقابلهم لم ينفكوا ينادونه بلقبه الديني ويطلبون مشورته في القضايا الدينية.
يتعرف سباستيان بأشهر ناقد في تلك الفترة (فارويل) وتُقام الأماسي بحضور الشاعر الكبير بابلو نيرودا، وتجري حوارات أدبية وإلقاء قصائد يكون فيها سباستيان مستمعاً أكثر منه مشاركاً، فهو لم يبلغ بعد الشهرة التي تمكّنه من ولوج هذا العالم، يقول له فارويل (إن الطريق ليس سهلاً في هذا البلد الهمجي). 
ومن خلال تلك القصائد والمناقشات ستنفتح ليالي تشيلي بكل أسرارها أمام القارئ الذي سيحتاج الى صبر لكثرة ورود أسماء في عالم الأدب والثقافة والسياسة في تشيلي، وأيضاً سيحتاج الى فهم شخصية سباستيان الذي يغير أقواله من حين لآخر، وكثيراً ما يخرج الى الطبيعة متخلياً عن الأدب وكونه رجل دين بحثاً عن السلام النفسي واستكشاف الأماكن، يحدث هذا حتى في الأماسي التي يحضرها كبار أدباء البلد وذلك لإحساسه بأنه غريب بينهم. 
وهذه الغربة التي تسحقه من الأعماق أو الاغتراب عن الآخرين هي التي أعطت للرواية تميزها من بين أعمال الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو المولود في العام 1953 في العاصمة التشيلية سانتياغو، هاجر الى إسبانيا ومات فيها في العام 2003، هو شاعر وقاص وروائي، وجاء تكريمه من بلده بعد وفاته بعام، وتعد ثلاث من رواياته من بين أفضل الروايات لمئة كتاب في الخمسة وعشرين سنة
الأخيرة.
ليل تشيلي تكشف حقبة من حياة التشيليين قبل وأثناء حكم سلفادور الليندي وما جرى في لياليها حتى جاء الانقلاب وغير الكثير، أو لنقل عقّد الكثير من شؤونها، وشهدت تلك الفترة موت شاعرها الكبير بابلو نيرودا، والأقبية السرية لتعذيب المعارضين ومنها قبو في بيت جيمس تومبسون أحد العملاء الأميركان، متزوج من امرأة تشيلية تُدعى ماريا كاناليس سيتضح في ما بعد بأنها تعمل في المخابرات التشيلية، كانت تقيم الأمسيات الأدبية في بيتها وتدعو النقاد والأدباء لحضورها لكي تحقق حلمها وتصبح كاتبة مشهورة على الرغم من إمكاناتها المحدودة، يحدثنا سباستيان عما كان يجري في تلك الأماسي التي كان يحضرها في بيت الكاتبة من دون أن يعلم بسر القبو الذي انكشف بعد سنوات، وهذا أكثر أسرار المرحلة السياسية في تشيلي عندما تصبح البيوت وكراً للجاسوسية فضلا عن السجون العلنية والسرية
الأخرى.
القارئ الذي يبحث عن قصص حب، لن يجدها في هذه الرواية، الحب لا ينمو وسط هذا الخراب، لكن حبكة الرواية ستشده إليها، ليل طويل متصل بليالٍ أطول يحدث فيها كل شيء فلا تستقيم الحياة بل تصبح سلسلة من الأخطاء برغم وجود طليعة من المثقفين الذين يحاولون إضاءة ليل تشيلي بإبداعهم، لكن هذه المهمة تضيع وسط الأحداث وتشعبها، ثم تأخذنا الرواية الى رحلة سباستيان لبعض الدول الأوروبية بتكليف للاطلاع على واقع الكنائس المزري في العالم، كيف يرمم من يرتدي نصف ثوب ديني ونصف ثوب دنيوي؟، هو نفسه، سباستيان، متسمّر بين البينين، يجذبه الأدب ويمسك به الدين، ولا يجد نفسه بشكل كامل في أحدهما، يقف على ضفاف الأدب ويسحبه ثوبه الكهنوتي. 
وعلى الرغم من أنه ينفرد بالقول ويتحدث كثيراً إلا أنه يقول (لا أدري عما أتحدث، أحياناً أفاجأ بنفسي متكئاً على مرفقي، أشرد وأحلم وأحاول أن أكون في سلام مع نفسي، لكنني أحياناً أنسى حتى اسمي) ص21، 22، فكيف إذن يمكننا الركون لهذه الشخصية المتشظية أن تقنعنا بصدقية ما تحدثت به؟ سننسى هذا كله ونقرأ بشغف متتبعين سيرة سباستيان، ربما نشفق عليه، غير أننا لا ننسى أن روبرتو بولانيو من خلال هذه الشخصية وعقدها النفسية صنع لنا هذه الرواية متقنة الحبكة والبناء، التي قالت عنها الناقدة والروائية الأميركية سوزان سونتاغ بأنها: نهر رائع من المشاعر، تأمل مدهش، خيال آسر، عمل شديد الأصالة والتفرّد.
 
صدرت الرواية عن دار التنوير 2014 بترجمة عبد السلام الباشا.