ستيفان زفايج.. رائي الموت والشفقة

ثقافة 2021/06/27
...

  صلاح الموسوي
 
(عالم الأمس) هو اسم المذكرات التي دونها الروائي النمساوي (ستيفان زفايج  1881 - 1942 ) وقد كتبها اثناء تنقلّه في البلدان، بعد هروبه من بلاده النمسا، التي احتلتها قوات المانيا النازية، ولا يملك في المنفى ايا من كتبه او مدوناته او رسائل اصدقائه لاشيء معي من ماضٍ الا ما احتفظ به عقلي، ولكن جيلنا تعلّم تماما فنا مفيدا، وهو عدم التحسّر على ما ضاع، وذلك لأنني لا أعدُّ ذاكرتنا عنصرا يحفظ وينسى اتفاقا، بل قوة منظّمة عن وعي، ومقصية عن حكمة، وكل ما ينساه المرء من حياته قد قضت غريزة باطنة أن ينسى منذ وقت طويل، وما يستحق الحفظ  للآخرين، هو ما يصر على البقاء فقط. وقد ترك قبل  يوم من انتحاره مع زوجته في منزلهم الفخم بالبرازيل، رسالة تفصح عن النزعة والحساسية الإنسانية العارمة، التي دأب زفايغ ان يبثها من خلال رواياته المسكونة ثناياها بقلق الأنتحار وشجون الشفقة.
في إحدى رواياته يتحدث زفايج عن طبيب عيون شهير يتزوج من امرأة عمياء تنتمي الى عامة الناس،  وعند السؤال عن اسباب هذه الزيجة الغريبة، يأتي الجواب. إن السبب هو شعور هذا الطبيب بالمسؤولية تجاه المرأة بعد تسببه بعماها نتيجة لخطأ في العلاج، وهذه القصة تظهر المعنى الحقيقي للشفقة كمسؤولية أخلاقية كاملة الأركان، يختلف عن الفهم الساذج للتعاطف والإحسان، حيث تختفي التفرقة بين الذات والموضوع، ولايفصل الطبيب هنا بين مهنته من جهة وكينونته الانسانية من جهة أخرى، وبحسب الفيلسوف (شوبنهور) تنتمي عاطفة الشفقة الى المعرفة الحدسية، فهي رؤية وبصيرة لا تنتقل عبر التصورات كما هو متعارف عليه في المعرفة المجردة، بل هي انتقال من مشاعر الذات إلى مشاعر الآخرين، وهذا المعنى للشفقة يتجسد بوضوح في شخوص المصلحين والفلاسفة، الذين ينؤون بأرواحهم الى حد احتقار أخلاق وأفعال  البسطاء والعوام، لكن بالمقابل يبذلون مهجهم إلى حد التضحية بالنفس من أجلهم، ويختلف مفهوم (التسامح) الذي طغى على الفكر الانسانوي الغربي في السنين الأخيرة  عن مفهوم (الشفقة) التي أمنت بها أرواح عظماء النهضة الأوربية، فالتسامح يوحي باستعلائية القوي ودونية الضعيف، وهو صنو للاستبداد في منح حرية الضمير أو منعها بحسب رأي أحد المفكرين الغربيين، وفي رائعته الصادرة العام 1927 (ساعة في حياة امرأة) ونقلها الى العربية الأسعد بن حسين، يتبنى زفايج روح الحداثة المتمردة والجامحة  ضد الأفكار والقيّم الأوروبية، التي تسببت بمآسي الحرب العالمية الأولى، فهو يتحدث في روايته عن كاتب يدافع عن امرأة هربت مع شاب تعرفت عليه قبل ايام في فندق تاركة زوجها وأولادها، ويسبر في الرواية اغوار النفوس البشرية المترنحة بين نزعة الشفقة والتوق الى الموت، ولم يكن لتيار الصدام مع منظومة القيّم السائدة ان ينشط قبل الحرب، وقد نجا زفايغ من مصير مشابه لمصير سلفه الروائي والمسرحي الانكليزي اوسكار وايلد الذي حكم عليه بالسجن في بريطانيا بتهمة اباحة الرذيلة والتشهير بقيّم المجتمع الفاضلة.
وفي رواية(الشفقة الخطيرة) يظهر بطل قصته، ضابط  في الجيش يحمل الكثير من اوسمة البطولة والشرف تكريما لاستبساله واندفاعه الشجاع في سوح الحرب، ولكن السر الذي يفصح به الضابط المكتئب للكاتب.
إن اندفاعه بالحرب كانت رغبة بالحصول على الموت، بسبب عذاب الضمير المتأتي عن انتحار فتاة معاقة جسديا احبته بجنون، وقضت على حياتها في ما بعد بالانتحار بسبب هروبه منها، لاستحالة ديمومة العلاقة مع الفتاة المعاقة.
 لماذا اقدم زفايج على الانتحار وهو بقمة مجده؟! يبدو أن العظماء في الوعي يتصالحون مع كينونة الحقائق المطلقة، فالموت والحب حقيقتان مطلقتان، لا يمكن حجبهما عند استحقاق الحضور، بقناع  الهروب أو التمسك بالغريزة الحيوانية للبقاء، وتبقى ارادة العيش بحكم النظرية الشوبنهورية تحتفظ  بشيء ما لاعقلاني  يمثل في العمق، الانكفاء  والجمود.
 دوّن ستيفان زفايغ في رسالة انتحاره (قبل مفارقتي الحياة بإرادتي الحرة وفي صحة من عقلي، أنا مرغم على الوفاء بالتزام أخير، أن أقدم شكري الصادر من القلب الى البرازيل، هذا البلد الذي وفّر كرمه لي ولعملي كل أسباب الراحة، ولكن الذي بلغ الستين من العمر يحتاج الى طاقات غير عادية، حتى يبدأ بداية جديدة كل الجدة، وما لديّ من طاقات قد استنزفتها أعوام التشرد المديدة، لذلك من الأفضل في اعتقادي أن أختم في الوقت المناسب وأنا منتصب القامة، حياة كان العمل الفكري فيها يعني الفرح الأصفى، والحرية الشخصية الأنقى، تحياتي إلى كل أصدقائي، عسى أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل وها أنا أتقدمهم وقد فرغ صبري تماما).